حكايات 3
لم يكن بالشاب الطموح، أو الحالم، كان الانكسار علامتهُ المسجلة، والخوف من الغد رفيقه الذي لا يمله. من يعرفه كان يؤكد إنه على مسافة خطوة من الانهيار، أو الدخول عالم الهذيان، كما دخله الكثير من مجايليه. لكن لسببٍ ما ظل هذا (البورا) قوياً حتى اغتنم هبة ريح دفعت بها الأقدار مركبه الصغير، وقتها.
كل نصيبه من التعليم، شهادة متوسطة في التبريد والتكييف، لم تستطع أن توفر له مصدر رزق، يساعده على البدء في بناء مستقبله، الذي صار يراه بعيداً، أكثر أكثر في كل يوم. دخل سوق العمل عاملاً في مقهى، قريباً من منطقة سكناه، يعينه على مصارف الأيام. يخرج من منزله صباحاً ليعود إليه مساءاً منهكاً، ليعيد صباحاً الدورة من جديد.
يحكي صديقه، أن كل حلم “سالم” كان محصوراً في بيت، يملكه، يكون عشه الذي يحض أسرته. والده، غفير وأمه ربة بيت، وله من الأخوة ثلاث؛ أخت كبرى تزوجت باكراً، وأخوان يكافحان في الدراسة الجامعية، يصغرانه.
قلت إن هبة ريح ساقت مركبه في اتجاهها. والقصة، إن صاحب المقهى قرر بين عشية وضحاها أن يغير نشاطه إلى محل ملابس نسائية، بحجة (إن القهاوي ولوا أكتر مالعباد، ومحل ملابس نسائية ربحه مضمون وما فيشي صداع هلبة، جيب وحط وارفع). وهكذا وجد “سالم” نفسه يجلس إلى ركابة الشارع، أو يدور ماسحاً صفحة الشوارع بوجهه. حتى أن اصطدم بأحد الأصحاب:
– وين؟
– بطالة… وانت؟
– نخدم في اللجنة الشعبية للـ……..
في اليوم التالي للقاء، كان صاحبنا أمام مبنى اللجنة ذاتها في انتظار صاحبه، الذي أدخله على أحد المدراء:
– هذا مفتاح القهوة، وشوف أمورك.
تحولت الـ3×4 متر إلى شيء آخر، فلم تعد تقدم الشاي والقهوة، بل صارت تقدم وجبات الأفطار والغداء لمن يتأخر من الموظفين، وبعد مضي أشهر، استعمل صاحبنا عاملاً للمساعدة وإيصال الطلبات للمكاتب. أما كيف ابتسم الحظ، فالقصة بسيطة، من سابق خبرته، كون “سالم” علاقة مع أحد مطاحق القهوة، فخصة صاحبها ببنٍّ خاص يقوم بخلطه بيديه، وكبادرة حسن نية منه، خص صاحبنا “سالم” أمين اللجنة بفنجان صباحي من هذا البن. ثم ماذا، تحول “سالم” إلى كرت الوصول المضمون للأمين والحصول على التوقيعات، ثم، رفيقه في خلواته وسهراته، ثم، استعمل عاملاً آخر، وتخصص هو في قهوة الأمين والأمناء الذين أعجبتهم قهوته، وهم كثر، ثم، سيارة، قطعة أرض، مبنى من دورين، وأخيراً تحقق حلم البيت، وتزوج، وزين العش بفرخين. تحول الانكسار إلى انتصار. صار محسوداً من جيرانه لما وصل إليه، ومقصد الجميع لطلب أي واسطة، أياً كانت وكيف؟
من خلال اقترابه اليومي، لمس قلق الجماعة مما يحدث في تونس، والاضطراب الذي أصابهم بانتصار الثورة المصرية، وكرد فعل طبيعي، انتقل إليه الخوف من انتفاضة الشعب:
– أنا شن عليا.. لاني أمين، ولاني غيره..
عاش مسيرة ثورة 17 فبراير على أعصابه، زادت المسافة بينه وبين الأمناء كثيراً، والأصدقاء تبخروا، والجيران تغيرت نظرتهم إليه، فانتقل بعائلته وأسرته إلى بيته الجديد الذي أنتهى من بنائه قبل بداية الأحداث، أدمن الجلوس إلى التلفزيون ومتابعة القنوات الإخبارية، ومحاولة قراءة الغد، كان لا يخرج إلا للضروري، اشترى الغاز والبنزين ولم يناقش، احتمل صوت الطائرات ليلاً، ونيرانها. كان يعرف حجم الفساد الذي تعانيه البلاد من خلال اتصاله بأهل العقد والحل. وكان يقف على الكثير من التجاوزات، وساعد الكثير. كان كل همه بناء بيت وإعمار عُش، وأنه كمواطن له نصيب من الكعكة التي يتقاسمها الكبار، ولو كان فتاتاً.
بعد التحرير وجد “سالم” نفسه ضيفاً على أكثر من مجلس عسكري، يُحقق معه بالساعات، ويطلب منه الإدلاء بما لديه من معلومات عن فلان وعلان. آلاف الرصاصات والهتافات رافقت يوم القبض عليه أول مرة، أصاب الهلع أهل بيته وفرخيه، بكت أمه وتوسل أبوه، لكن لا صوت سمع في جوقة القبض على أحد أعوان النظام.
لم توجه إليه أي تهمه، صفحته بيضاء من الدم والمشاركة في أي عمل ضد ثورة 17 فبراير المجيدة، حمل في يديه أكثر من خمس رسائل تفيد بأنه (أبيض). عندما عاد لبيته بعد مسيرة التحقيقات الطويلة، وجده خالياً، لا شيء فيه، حتى الحمامات رفعت من أماكنها. عاد للمجلس العسكري، أخبرهم بما حدث:
– شوف يا خوي.. كبّر وبس.
أخي الكريم
الكثير من سالم يوجد بيينا، وأنا أتفهم ما أردت قوله من إنهم ضحايا لنظام الطاغية، وأنهم كانوا يبحثون عن فرصتهم للعيش والحياة الكريمة. لكنهم استفادوا على حساب بقية الليبيين وهذه أنانية تجعلنا لا نحبذ وجودهم بيينا من جديد.
شكرا لقلمك