حكايات ليبية
اسمي “علي”، جاء أبي طرابلس في بداية ثمانينات القرن الماضي، بناءً على طلب جدي لأمي، بعد أن حصل له على فرصة عمل في (مصنع المكرونة)، حيث كان يعمل.
سكنّا منطقة (…..)، وهي أحد المناطق الشعبية، ولكوني كنت في سن المدرسة، دخلت المدرسة في طرابلس، وهو أكثر ما حسدني عليه أبناء عمومتي عند مغادرتي لبلدتنا بقولهم: صحة ليك بتقرا في طرابلس.
عشنا حياة هانئة، وسعيدة في وجود جيران كانوا كأهل، تقاسمنا وإياهم الفرح والترح، وكانت الأمور تسير كما قدر لها المولى.
تزوجت أختي أحد أبناء الجيران، وتبعتها أختي الثانية لأحد الأحياء القريبة، وتزوج أخي الأكبر وسكن خارج منطقتنا، في أحد أحياء طرابلس الراقية مقارنة بمنطقتنا. في العام 2006 تزوجت من ابنة عمي، وسكنت معي بيت العائلة، صحبة أمي وأبي، بعد أن بنيت دوراً ثانياً كباقي الليبيين، هذا الأمر ساعدني كثيراً، خاصة وأن طبيعة عملي الصحراوي، تفرض علي الغياب عن بيتي لأسبوعين، أحياناً أكثر، وهكذا أكون مطمئناً عليهم جميعاً.
في بداية الأحداث، كان من المفترض أن أذهب لعملي في حقل (….)، لكنه طلب مني الانتظار حتى تهدأ الأمور. وتطورت الأحداث بسرعة؛ فالمنطقة التي ننتمي لها أعلنت عصيانها، وتحررها من قبضة “القذافي”. ولا أخفيكم، أني كنت أرى أن ما يحدث في ليبيا، لن يتطور أكثر، وإنما هي فورة، وتهدأ من بعدها الأمور، خاصة ما نعرفه عن سيطرة وقوة “للقذافي”. وإنها مسألة وقت.
لكن الأمور استمرت في التطور، وصرنا نحس ببعض المضايقات، كوننا من أبناء مدينة (….)، الأمر الذي اضطرنا إلى مغادرة الحي، بالرغم من معارضة بعض سكان الحي القدامى، لكنّا تحت تحشيد الإعلام غادرنا.
في بلدتنا لقينا من الترحاب والدعم، ما نعجز عن وصفه، وللحق لم أشارك في أي مواجهة عسكرية، لكني قدمت بعض الدعم اللوجستي، أو بعض المساعدة في الترجمة.
يوم 25 أغسطس 2011، رجعنا جميعاً إلى طرابلس، وكانت المدينة غير المدينة.
شوارع مقفلة، وشباب في الشارع يقومون على استقبالك، وتوجيهك، أصوات التكبير والأغاني تصدح من كل مكان. عند مدخل الحي، أوقفنا أحد الشباب، وما إن عرفنا حتى فتح باب السيارة، وعانقني بقوة، وهو يقول: (يا بطل)، وهكذا بقية شباب الحي، حتى وصلنا البيت. وظل الجيران يغدقون علينا من كرمهم، لفترة من الزمن. وعادت الحياة لطبيعتها، وعدنا.
كانت الحياة في طرابلس، تخضع للتقلبات السياسية والمصالح، فمرة فوق، ومرة تحت، ومرات تحت التحت. حتى جاء يوم 13 يوليو 2014، ووقوع مدينة طرابلس بين طرفي المواجهة. ليتحول الوضع إلى أسوء مما عشناه بداية ثورة 17 فبراير.
هجرنا سكان الحي، وصاروا يحملوننا تبعات ما يحدث، وما سيحدث، حتى وإن لم تقل بشكل مباشر، فإنها كانت بالتلميح و(ضرب المعاني).
هذه المرة، وجدت نفسي مضطراً للخروج وكامل عائلتي.
في صباحٍ باكر، حملنا ما نحتاج إليه، والضروري، وعند قفلي لباب السيارة، قرأت الجملة التي كتبها أحدهم على جدار البيت الخارجي، وما إن انطلقت، حتى أوقفني جارنا عائداً من صلاة الفجر، سلم على العائلة، وخص الوالد بسلام حار.
من تاريخ ذلك الصباح، لم أعد لطرابلس.
لسبب ما، لم تعد لدي رغبة في العودة، كان قرارً صعباً علي وعلى أسرتي. وبالرغم من حديث جارنا ودعوته لنا للعودة، إلا أني قمت بتحويل كل ما لدي في طرابلس، إلى هنا، إلا بيتي، تركته هناك. لعل في يوم ما، أعدل عن قراري وأعود، وإن كانت ثمة قناعة لدي بأن هذا الأمر بالنسبة لي لن يكون سهلاً، فالناس الذي عشت وإياهم أفراحهم وأتراحهم، خذلوني في مرتين، ولا أريد للثالثة أن تقسم ظهري.