حكايات 2
لأكثر من أسبوع وهي تحبس نفسها إلى سريرها، لا تكلم أحداً.
“نادية” فتاة على أعتاب الثلاثين، لم تدركها بعد، لكنها تفكر كثيراً، في القطار الذي لم يتوقف عند محطتها، التي ظلت تحافظ على نظافتها والعناية بحديقتها، وبقاء رصيفها نقياً للقادم، الذي سينزل عن القطار. كانت فكرة القطار والمحطة تعجبها أكثر من مشهد الفارس والحصان الأبيض، ربما حبها لـ(فيروز) جعلها تقبل هذه الرؤية، خاصة وإنها لا تمل الاستماع لرائعتها (المحطة)، وأملها في مرور القطار يوماً ما، وإن تأخر.
هي أوسط أخواتها، تحصلت على شهادتها الجامعية بتقدير عام جيد جداً، ولم تستطع قبول فرصة الدراسة بالخارج لوقوف العائلة دون ذلك خاصة، وبشكل خاص أخوها الذي يصغرها، والذي يتحكم بكل شيء (شن بندير!!!، راسه مسكر، كيف بنت تقرا بره). ولله الحمد، تحصلت على عمل جيد، في أحد المؤسسات، كانت أصغر العاملين بالقسم، شعلة في النشاط، الأمر الذي أجبر أحد العاملات بالقسم على مصارحتها (شوفي يا غاليه، الجو اللي اديري فيه عارفينا، أركحي خير ما اطيحي وتتكسر رقبتك!!!)، بينما أحد العاملين سرب إليها (شوفي يا أختي، راهو مدير القسم مش عاجبه الجو اللي اديري فيه، ومش مالساهل تاخدي مكانه!!!). تقدمت بطلب للانتقال لقسم آخر، لكن نشاطها كان سبقها وحذرهم، حاولت الانتقال لمؤسسة أخرى، ولم تتمكن. حبست نفسها إلى مكتبها، ومع الأيام تعلمت الامبالاة، لا تفعل أكثر من تتطلبه ضرورات العمل. في أحدى اللقاءات همست في أذنها صديقة (خيرك ما تسجلي في الأكاديمية). رغم المعارضة الأسرية، إلا إنها بالإلحاح تمكنت من إقناعهم (أنا بحداكم ومش بعيدة عليكم)، ولم يتأخر مديرها في التوقيع على موافقة الدراسة كما تطلبه مسوغات القبول للدراسات العليا. كانت تحتاج شيئاً ينتشلها من حالة الموت التي تعيشها في كل يوم. خمس سنوات مرت على تجربتها العملية، فقررت أن تستثمر فرصة الدراسة لمحاولة تطوير أداء المؤسسة، همست بذلك لزميلتها، فعلقت مباشرة (مايفيد في البايد ترقيع!!!).
مرت السنة الأولى على خير، مع بداية السنة الدراسية الثانية، انطلقت ثورة 17 فبراير، فارتبكت، قبل أن تتوقف الدراسة، أو هي من أوقفها حذراً وخوفاً.
كانت الثورة بالنسبة لـ”نادية” لا تتعدى ما تعلمته في المدرسة، من خلال مادة (الوعي الجماهيري)، أو من خلال ما التقطته أذناها وعيناها عبر ما تبثه القنوات المحلية. لم تهتم يوماً بالسياسة ولا الاقتصاد، تربيتها الصارمة دجنتها، لتهتم بما يتماس معها لا أكثر (خليك في نفسك!!!). ما حدث أربك عقلها الصغير المجهز للتعامل مع العلوم، لا الأحداث للتفاعل معها. بالنسبة للعائلة كانت بالكامل مع النظام، مؤيدة بشكل تام، تطوع أخوها ضمن من تطوع في (الحرس الشعبي) رجع للبيت حاملاً (كلاشنكوف) وسيارة. لم تكن لتخرج عن القطيع، لتكون القصية فينهشها الذئب. فرددت ما كان يردد البيت. خرجت في المظاهرات المؤيدة تحت ضغط الأسرة، التقطتها بعض الأعين على شاشة التلفزيون. في الإدارة كانت تعيد القصص التي رواها أخاها بعد عودته من (مصراتة)، عن الجماعات المسلحة، كيف تقطع أثداء النساء، وتقتلع القلوب، وكيف نزل الأجنبي على شواطئ ليبيا، والحرب الصليبية الجديدة على ليبيا الإسلام بقيادة (الناتو).
حل رمضان، وسهريات العائلة تحولت إلى الثلاثي (شاكير، حمزة، هالة)، حتى ليلة 20 رمضان، عندما علتِ التكبيرات من كل مكان، وفرّ الطاغية كجرذ إلى حفرة أخرى. لحظتها تكسر شيء، سيء لا يمكن وصفه أو تحديده، شيء أعلن عن نفسه، كأنه الصبح، كأنه الحق (كنا على ضلال يا هند).
لأكثر من أسبوع وهي تحبس نفسها إلى سريرها، لا تكلم أحداً. صامتة، جامدة العينين. لا أحد في الإدارة يتقبلها، حتى زميلتها الأثيرة حسمت الأمر (يا طحالب، عيشوا معنانا والله غالب). زميلٌ آخر وضع صورتها تلك على الفيس. كانت تسأل نفسها، لماذا هي (الموالية والطحلوبة)؟ وليس مدير الدائرة الذي طبل وزمر وحشدهم للخروج في المسيرات؟؟؟. هل ذاتها الحسابات مازالت؟، أم أنها لا تجيد التحول والتلون، لتتسلق بسرعة رافعة أصابعها بعلامة النصر (دم الشهداء ما يمشيش هباء).
هنا، انقطع أخبار “نادية”، ولم يعد من وسيلة للاتصال، سمعت إنها حاولت الانتحار، بعد انقطاعها عن الأكل والشرب.. هل نخسرها؟، سؤال يفتح بابه أمامي عن كثير مثل “نادية”، كل ذنبهم غفلتهم وجهلهم.
هناك الكثير من نادية في المجتمع رجال ونساء
المهم أن نجد لهم حلاً للاستفادة منهم في البناء بدل نبذهم وإقصائهم
شكرا لك
كثيرة هي الحالات المشابهة لي حالة نادية … اللهم رحمتك علي البلاد والعباد