حكايات 1
جلال شاب ليبي، وكأي شاب، كان أفق الأحلام لا نهائي، لا حد له ولا سقف. عند باب الجامعة اكتشف إن المسافة بينه وبين حلمه بعيدة، بعد العام الأول، تأكد أن المسافة تزيد، وعلى عتبة الثانية: (حلمي مستحيل).
عند رؤيتك “جلال” للمرة الأولى، يخيل لك إنك أمام أحد التماثيل الرومانية، في تناسق الجسم وفورته، والأنف الروماني الصغير الحاد. يمشي بخطوات متباعدة، مستقيم الجذع، موجهاً نظره للأمام. وكونه أكبر أخوته، فكان أن قرر أن يهتم بأخوته الأصغر ويساعدهم، فيخصص ساعتين لمتابعة دروسهم ومساعدتهم في أداء واجباتهم.
وكأي شاب ليبي، عشق كرة القدم، ولعبها في الشارع، شجع فريق (اليوفنتس)، وتعارك مع جاره الذي يشجع (البارشا)، وقاطعه لأسبوع عقب هزيمة (اليوفي) وسخريته من أداء الفريق. لعب في دوريات شهر رمضان وكان مشهوراً بـ(باص العيون) وتسديداته القوية، لعب قليلاً مع أحد الأندية المحلية، وتركها لأن إدارة النادي لم تكن قادرة على تدبير وجبة لائقة قبل لعبهم في مباريات الدوري، بينما رأيس النادي يقود سيارة (ثمنها الشيء الفلاني).
تربى “جلال” في أسرة متوسطة الحال، الأم مدرسة والأب موظف، حاولا جهدهما توفير مستوى معيشي يلبي احتياجات أبنائهما الأربعة: جلال، انتصار، وائل، طه، بما يكفل حياة طيبة بعيدة عن التكلف. تسكن العائلة ببيت (عربي) ورثه الوالد، بحي شعبي.
عندما تخرج من الثانوية، لم يطالب “جلال” بهدية تخرج، انتشى بالدموع التي ترقرقت في عيني والدته، وضمة والده إليه بقوة كادت تجمع ذراعية بصدره. استعداداً، استغل العطلة الصيفية للعمل وتجهيز نفسه للدخول للجامعة، وبالتحديد كلية الهندسة، وبشكل محدد الهندسة الكيميائية.
“جلال” الشاب ليبي، وجد في النت الكثير مما يفتقده، لم يذهب وراء المغريات، منذ البداية كان هدفه من هذه الشبكة واضحاً، المعرفة. فكان وسيلته في التعرف إلى آخرين يشاركونه اهتماماته، ويبادلونه الخبرات العلمية والعملية، تواصل معهم.
نحن لا نتحدث عن شاب مثالي، بقدر ما نتحدث عن إنسان، كل همه تحقيق حلمه، حدد هدفه، ورسم خطاً مباشراً إليه. لم يهتم بالسياسة أو ما يمت إليها، حد إنه كان يترك أصدقائه حال الحديث عن سياسة البلاد، لكن قلبه كان يعتصر ألماً لما تعيشه البلاد من حالة تخبط، ولخبطة، لذا كان لا يبخل بجهده من أجل المساعدة والتحرك في البرامج التي يرى إنها تساعد على النهوض بالبلاد. على (الفيس بوك) دخل في حوارات كثيرة مع آخرين –لا يعرفهم- عن كيفية، الأخذ بيد “ليبيا” لتكون في مصاف الدول الراقية. كان يرى إنه بالعمل يرتفع شأن ليبيا، لم يوافق على الدعوات التي بدأت تظهر على الفيس للعصيان المدني، والتحرك من أجل الثورة.
الثورة، كلمة لم تخطر بباله، ولم يستطع عقله استيعابها، بحر من الأسئلة اضطرم داخله، لا يريد الهدوء، يضرب شواطئ قلبه، يزمجر في رأسه، لا يمل، وفي كل مرة يضرب أقوى. هل الثورة الحل؟، جمع في بضع ساعات أكثر من 250 تعليق، بين مناصر ومعترض، ثم لاحظ إن ثمة خطاً رفيعاً يقود لنقطة مبهمة، كان ثمة حركة –منظمة إلى حدٍ ما- بدأت على الفيس لمواجهة ما يثار. الشاب الهادئ البعيد عن المشاكل، وجد نفسه في عين الإعصار.
في مارس 2011 قبض على “جلال”، ولم تفلح دموع أمه في ثنيهم: ما تخافيش يا حاجة؟ شوية ويكون عندك!!. مضى شهر ولم يعد. جرّد الوالد ما يستطيع من معارف، وواسطات: مافيهاش كيف، ولدك كاتب في الفيس بوك كلام كبير!!!.
يصمت “جلال” عن الكلام، يزفرُ بقوةٍ قافزاً إلى لحظة خروجه من محبسهِ عند تحرير طرابلس. وكيف انضم للثوار. لم يمكث بين أحضان والديه وأخوته أكثر من يومين. اتجه بعدها صوب (سرت)، حاملاً سلاحه وبعض متاع. على حدود سرت كان المقاومة قوية، والهجوم عنيفاً: في اليومين الأولين ما قدرتش نطلق حتى طلقة وحده.. وبعدين تسرحت.
عندما تم القبض على (الطاغية)، كان في حالة هستيرية وهو ينقل لوالدته الحدث: شديناه يام.. الطاغية شدينااااااااه.. الله أكبر. انقطع الاتصال!!!.
يصمت “جلال” مرة أخرى.. تكمل والدته:
عند الباب وجدته جالساً، كنا بالخارج، احتضننا جميعاً، بكى كثيراً، وأبكى معه جيراننا.. في الداخل، سأل هل سريره مازال في مكانه، أجبته: نعم.
ليومين متتاليين لم يبرح السرير إلا لقضاء حاجته، نائماً يصارع في أحلامه جنوداً وحوادث، كنا نفزع، وحال وصولنا نجده سكن، إلا من صوت تنفسه العميق.. لم يتحدث عن فترة وجوده في (سرت)، كل ما فهمناه إنه خُدع في الثوار، وأنه لم يستطع إيقافهم وهو يقومون بـ(تمشيط) ما يقابلونه أمامهم، دون استثناء، يحملونه إلى بيوتهم، فسلّم سلاحهُ وعاد.
بشكل غير مباشر، حافظت على المسافة التي وضعها “جلال”، فهو الآن يميل أكثر للوحدة، يقسم وقته بين دراسته، وأخوته وما يقام من محاضرات تثقيفية. لا يشارك في التظاهرات ولا حتى انضم لثوار منطقة سكناه. بقدر الإمكان يحافظ على روتينٍ يومي، يضمن له مساراً هادئاً. عندما طُلبَ منه الحضور لاستلام منحة الثوار، اعتذر، وطلب عدم الاتصال به مرة ثانية.
قبل يومين من كتابة هذه السطور، تمكنتُ منه، جلسنا لأكثر من ساعتين، تحدثنا كثيراً تشاركنا قراءاتنا للواقع والأحداث، حلمنا، تمنينا، اتفقنا، اختلفنا.. قلت له: سأكتب عنك!!. ابتسم عند باب البيت، وقبل أن أقفل الباب، التفت إلي: أكتب، إن لليبيا رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وأن الأشباه سينتهون عندما تسطع شمس ليبيا من جديد، في صبح ليس ببعيد.
وكأنك تتحدث عني
عشت نفس الأحداث
لله الأمر من قبل ومن بعد
أشكر مرورك الكريم
تحياتي