في مجتمع منغلق، يؤمن بالخرافات والخوارق، يفسر تبدل الحال بالعين، وتغير التصرف بمس الجن، من الطبيعي أن يكون السحر مكونا أساسياً في الموروث الثقافي، الذي ينتقل مجايلة، وبالتالي وكنتيجة وجود الساحر/ الساحرة.
ترجع أولى ملاحظاتي فيما يختص بمسألة السحر وما يتصل بها، إلى سنوات عمري الأولى، عندما عندما خرجت إحدى جاراتنا بابنتها الرضيعة مسرعة قاصدة الشيخ (……)، والذي كان يسكن حينا، لمحاولة مساعدتها في إسكات ابنتها التي لم تكف عن البكاء منذ الأمس، ولكونها تسن البيت الملاصق لنا، فقد وصلنا بكاء الرضيعة طوال الليل، ولم تشفع مراجعة المستشفى في الليل -كما أخبرنا-. وعادت جارتنا، والرضيعة في غاية الهدوء والدعة، أما ما حدث فعلمه عند الله! كل ما أذكره أن أمي صحبة الجارات سارعن إليها للاطمئنان.
أما الشيخ (…..)، الذي كان يسكن حينا، فقد انتقل بعد فترة إلى بيت جديد، أرحب وأكبر، وانتقل معه زحام الزائرين إلى سكنه الجديد.
وفيما يخص صفة (الشيخ)، فهي تستخدم بشكل كبير في ليبيا لوصف الأشخاص وبشكل غير مترابط او متجانس أحياناً، فالساحر أو العراف يقال له شيخ، كما يقال للإمام وخطيب الجمعة، ومنشد المالوف، وهكذا-
وأذكر أنه في ذات الفترة، انتشرت الأخبار عن فتاة من الجبل تقرأ الطالع (عرّافة)، وتحدث الناس بتصاريف الأيام معهم. فشد الرحال إليها، وتحولت إلى مزار كبير، وانتعشت القرية من حولها، وصرنا نسمع بشكل يومي حكايات عن خوارق لهذه الفتاة التي فتح الله عليها أبواب السماء فجاة، حتى علمنا أو روي إن القذافي زارها متخفياً، فعرفته قبل أن يدخل إليها، لتختفي من بعد هذه الفتاة، وانتهت الحكايات معها فجأة.
(قالوا لقت حجيب، مدفون في الجنان)
هذه بداية أحد القصص التي حدثت في إحدى السنوات المبكرة، والقصة أخذت رواجا كبيرا وأصداء واسعة، وأحدثت خلافات ومشاكل عائلية كبيرة على إثر اكتشاف هذا الحجيب المدفون، الذي استطاع أن يفرق العائلة ويطرطشها، بما تعنيه كلمة طرطشة من معنى في الثقافة الليبية!
مصطلح الساحر، يظهر عندي بشكل واضح؛ معنى وبعدا، في مرحلة دراستي الإعدادية، حيث كنت أدرس بمدرسة (أحمد رفيق المهدوي)، الكائنات بمنطقة الظهرة، حيث كان أحد الزملاء يحدثنا عن (القوديا) الذي يسحر أي شيء.
التلفزيون الليلي، كان عبر برنامج (الشرطة والمجتمع)، ومن بعد (الأمن والمجتمع)، يقوم ببث مداهمات لأوكار السحر والشعوذة، ويعرض لهم ولممارساتهم ويحذر الناس من الانجرار وراءهم، لأنهم يبيعون الوهم، وهمهم الأول هو المال. خاصة بعد أن انتشرت بشكل كبير حكايات البحث عن الكنز المرصود والذي لا يفتح إلا بدم فتاة بعينها (دخيرة).
مع بداية البث الفضائي، وانتشار القنوات الفضائية، كان السحر أحد الموضوعات التي تناولتها العديد من البرامج، لها أشهرها برنامج الإعلامية “هالة سرحان” على قناة ART، الذي جمعت فيه كل من له علاقة بالأمر، من قريب أو بعيد. وأظن أن التلفزيون عرض لحلقة عن السحر بالخصوص.
أما أفضل التحقيقات المصورة -من وجهة نظري-، فهو ما قامت به قناة mbc من خلال تحقيق كبير بث على ثلاثة أجزاء، تناول موضوع السحر والسحرة، في البلاد العربية وعرض لأساليب السحر وغيرها، وتابعت هذه الحلقات، والتي كشفت الكثير من المعلومات.
ولأني من محبي القراءة، ودائما ما أبحث عن الإجابات من خلالها، للأسف لم تسعفني الكتب في هذه المرة، فالكتب التي تتناول السحر؛ إما تتناوله من جانب ديني، فتحرمه وتطالب بقتل الساحر، أو كتب تتناول آثاره الاجتماعية. وحتى عندما سمعت بمصطلح (التصفيح)، أخذ مني ذلك الوقت الطويل لفهمه، ولأدرك أن هذا الطقس الشعبي، هو من أعمال السحر.
من الملاحظات المهمة، والتي أسجلها في ذاكرتي، هي زيارة المغربيات المشتغلات بالعرافة والسحر البيوت الليبية، نهاية تسعينيات القرن الماضي، بل والاحتفاء بحضورهن والاستعداد لهذه الزيارة، والتي كانت لبعض الأسماء بالحجز والواسطة.
كانت هذه التصرفات جزء من ثقافة المجتمع، ويتم التعامل معها بشكل عادي، ويظل الساحر يعمل دون مشاكل لسنوات، وهناك من ورثه ابنه، ولم يتم التعرض لهم. الساحر أو العراف مالم يرتكب خطأ تترتب عليه واقعة جنائية فهو في أمان. وبالتالي لم تثر أي ضجة عن السحر على مستوى الدولة حتى العام 2011م، وتحديدا مع أحداث ثورة فبراير. ليتحول السحر إلى موضوع أمن قومي، ومسألة بقاء!! هدمت الكثير من المباني بدعوى السحر المدفون، واستبيحت الكثير من أضرحة الصالحين بالدك والتفجير، ونبشت وحفرت. وبحرقه ورشه بماء البحر ستحل عقد البلاد والعباد، لتأتي النتيجة بالعكس، تعقيد وعقد لا تنتهي.
بالرغم من قناعتي، بوجود السحر وأعمال السحرة التي تفرق ولا تجمع، وأنها منافية للأعراف والأديان، إلا إن تحويلها إلى مسألة قومية، أمر مبالغ فيه في رأيي، وغير مبرر إلا من باب ذر الرماد في العيون، بغرض إلهاء الشعب. لأنه من الصعب أن يعيش المجتمع الليبي بدون سحر، مالم يتم العمل على المجتمع فكريا بمنهج علمي هدفه ضرب المناطق السوداء والمريضة في موروثه الثقافي، لنضمن أن باب السحر والغيبيات والخرافات وما في حكمها، سيسقط عند نقل الخبرات والمعارف بين الأجيال.
فعل هذا ممكن؟
الإحابة، لا!!؟؟
سيظل السحر مكونا ثقافيا أصيلا، لكن يمكن تحويله إلى موروث ساكن أو ميت، لا يعول عليه، وبالتالي لن يجد من يزوه في المتحف، بل ويهتم به، إلا باحث.
الساحر لا يفلح، وهي حقيقة قرآنية، الإيمان بها أولى محطات تحجيم هذا العمل، وهو أيضا لا يوجد حلول، إنما يخالف أمر الله، بالتالي لن يكون معينا أمينا.
التوعية هي الأساس، في وجود أرضية تكفل للمواطن العيش بكرامة والأمان!!!