حكايات ليبية
تستدعي ذاكرتي في هذه الأيام، وبشكلٍ كبير، ذكرياتي طفولتي الأولى ومرابع صباي بمنطقة (تقسيم التواتي) بـ(حي المنشية – شارع بن عاشور)، وبشكل خاص العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط سكان الحي. والذين شاء القدر أن يكونوا خليطاً محلياً وعربياً وأجنبياً، تعايش في سلام، ورسم مشاهد لازلت في ذاكرتي، ولن تغيب.
الحي كان مستطيل الشكل، في مستويين؛ المستوى الأول اصطفت فيه البيوت على المحيط الخارجي لهذا المستطيل، أما الثاني فتراصت في على جهتين في مستطيلٍ داخلي. حتى الثمانينيات، كانت الشوارع ترابية، وكنت نستمتع بغدران المطر، وحفر بوكات البتش، وفن الزرابيط، قبل أن تدخل الشركة التركية، وترصف الشارع بالأسفلت، وتحفهُ برصيف، اخترعنا على أساسه لعبة جديدة تستخدم فيها الكرة، أسميناها (الحاشية). كان هذا المستطيل يطل في واجهته الشمالية على الطريق العام، وتحفه شرقاً وجنوباً السواني (الكرداسي، بن سعيدان، الكانوني، القصبي،…) أما غرباً مربعٌ سكني آخر.
في ليالي الصيف، كان الطريق العام يتحول لساحة لعب، كونه البقعة المضيئة. أما السواني، فكانت ملعبنا في اصطياد العصافير بنصب (الطربيقة) أو (الكولّا) أو استخدام (الفليتشا)، والتسلق أشجار التوت. كانت أي مساحة مربعة تتحول إلى ملعبٍ لكرة القدم.
تشارك هذا الحي مجموعة من العائلات الليبية، والعربية، ولأني تحدث عن العائلات العربية في حديثٍ سابق، أركز هنا في حديثي عن العائلات الليبية، التي عشتُ جنبات بيوتاتها، وأكلت خبزها وتذوقت ملحها.
كان بيتنا في الركن الشرقي من المستطيل الخارجي للحي. وأقرب الجيران لنا، كانت عائلة (جبالية)، وهي أول ما أتذكر من العائلات، وكانت مكونة من زوج وزوجة، لا أتذكر الكثير عنهم، كونهم غادروا الحي مبكراً، لتحل محلها عائلة من ذات الجبل، كانت ذات إيقاع حياتي خاص لكثرة زوارهم من الجبل، ولتواصلهم الرائع مع كل الجيران، حتى اللحظة بعد مغادرتهم الحي.
أربعُ عائلات من (مصراتة) عن يميننا وشمالنا، تميزت أعراسهم بـ(الزكرة) و(التمر)، أما العيد الصغير (عيد الفطر) فكان لا يتم إلا بالفطيرة المصراتية.
على ذات الخط، كانت تسكن عائلة من فزان، لا أستطيع أن أصف مقدار طيبة هذه العائلة، التي كانت توزع التمر في مواسمه على الجيران. ولشد ما لا تمل حديث جارنا مستمتعاً بلهجة أهل الجنوب المميزة.
في المقابل سكنت أحد عائلات الساحل، الزاوية الغربية؛ كانت رائحة الكسكسي الذي تصنعه جارتنا يعبق في الحي، واليقين أن (الذوقة) هذه المرة نصيب أحد البيوت. على ذات المسار عائلة من تاجوراء، ثم زليطن، غريان. أضافة للعائلات الطرابلسية، أو العائلات التي سكنت طرابلس من القديم، والتي تميز بصنع الحلويات الطرابلسية كــ(الكعك المالح)، و(المقروض)، أما (البكلاوة) فمذاقها لا يغادر فمي حتى اليوم.
وكما كان لكل بيت بصمته الخاصة، كل لكل بيت ما يتقاسمه وجيرانه، في اليومي والمناسبات حلوها ومرها. مع السنوات كانت بعض العائلات تغادر، لتحل مكانها أخرى، فسيفساء متواشجة في لبنات لجسدٍ واحد اسمه ليبيا. في المراحل المبكرة من عمري، كان الكل سواء، كلنا ليبيون، وإن اختلفت ألواننا أو لهجاتنا، الانتماءات كانت تظهر بشكل واضح في الأعياد، عندما يفرغ الشارع فجأة من أغلب قاطنيه –وكنا منهم-، متجهي إلى بلدتنا للمعايدة وقضاء يوماً أو يومين مع الأقارب.
كنا نعيش كأنا أسرة واحدة، نمارس حياتنا بشكل متناغم، لا معنى فيها للقبيلة أو الانتماء لمدينة ما، أو جهة ما. نرقص على إيقاع الزكرة المصراتية بذات الحماس على إيقاع تدريجة العريس، وبذات الحب نواسي بعضنا في المصائب والملمات. كانت كل البيوت مشرعة، وكأن كل منها غرفة في بيت.
عندما مرض أبي –وأنا لازلت صغيراً- ذات ليلة، قصدت بيت جارنا، الذي هرع لنجدتنا، وحمله إلى المستشفى، وقالي: وللي للحوش. ليعود صباحاً، بحضور زوجته وهمي تطمئننا عن صحة الوالد، وأن ما مر به عارض. هو ذات الموقف الذي لجأت فيه جارتنا لبيتنا، في 15-4-1986 عندما قُصفت طرابلس، ليحول جارنا (ريفوتجو) إلى ملجأ لعائلات الحي، خلال فترة الطوارئ. وهو نفسه كان يهب صالته لإقامة الأفراح والأتراح.
لم أشعر يوماً بالوحدة في هذا الحي، فغير لعب كرة القدم، مارست هواياتي بكل حب أمام الأصدقاء والجيران، فكل الجيران كانوا يسألون عن رسوماتي، وتخطيطاتي، كما يتابعون تجاربي، حتى سميت بـ(عبقرينوا). كان ثمة من يشاركني شغفي بالكتب وقراءة الألغاز البوليسية، أو الغناء والعزف الذي برغم المحاولات فشلت فيه بامتياز.
لازال الحي كما هو، وإن تغير بعض الشيء، محافظاً على نسيجة الملون الرائع، برغم الحوادث.
حفظ الله ليبيا.