1
لم أحب مدينة كما أحببت طرابلس، فهي لم تكن مسقط رأسي، ودخلتها بعد أربعين يوماً من ولادتي، عبر مطار طرابلس العالمي (المطار القديم).
في منطقة بن عاشور1، وتحديداً (تقسيم التواتي) بدأت قصة حياتي، كانت المنطقة من حولنا أراضٍ فضاء وسواني2، كانت الشوارع ترابية، يسهل حرف حفر البتش3 فيها بكل يسر، ورسم حدود الرشقة4، وتحولها إلى مستنقعات في الشتاء، حيث لا نخاف ونحن نخترقها من بلل أقدامنا بفضل القنبالي5 الذي كنا نرتديه، ويجعل لأقدامنا رائحة غريبة.
في (فشلوم)6 درست مرحلتي الابتدائية بمدرسة (الفيحاء) منتقلاً إليها من مدرسة (براعم الأقصى) الخاصة، بعد إغلاق المدارس الخاصة في ليبيا، تعرفت على الكثير من الأصدقاء، وكنت أذهب للمدرسة صحبة والدي، لكن عند بلوغي الصف الخامس، صرت أذهب وحدي رفقة أبناء الحي. كنت عضواً في الفريق الموسيقي للمدرسة، وصديقاً للمكتبة، وغرفة الرسم. في المدرسة تعلمنا إن استقلال الـ52 هو الاستقلال المزيف، وأن الثورة أجلت القواعد. لكن هذه المدرسة فتحت عيني على شيء مختلف، حيث ما زلت ذلك الصباح الذي دخلنا فيه ساحة المدرسة لنجد العلم (الأخضر) ممزقاً على السارية، وفي الساحة الترابية مكتوبٌ على الحائط باللون الأسود: يسقط معمر.
لدراسة الإعدادية انتقلت إلى (الضهرة)7، حيث مدرسة (أحمد رفيق المهدوي)، حيث بدأت مرحلة القراءة والمطالعة، حيث كونت وصديقين مجموعة لتبادل الكتب والقصص والمجلدات فيما بيننا، ومتابعة مجلات الأطفال: ماجد، وسعد، وعرفان، وسامر وبساط الريح.
في هذه المرحلة تعرفت إلى الضهرة وشوارعها، وتسربت منها للمدينة8، حيث وسط البلد، بشوارعه الواسعة ومحلاته، والحركة النشطة فيه. عقب ليلة الغارة في 15-4-1986، صباحاً وعدم ذهابي للمدرسة، سحبت من تحت الوسادة رواية بوليسية كنت قد بدأت في الليلة السابقة مطالعتها، لاستكمالها.
كنت في كل مرة أتعرف إلى طرابلس أكثر، وأحبها أكثر. في الثانوية قادني القدر إلى مدرسة (أسد الثغور الثانوية) وهي النسخة المعدلة –كما علق أحدهم- من مدرسة (زاوية الدهماني الثانوية) بعد نقل مقرها إلى منطقة (وسعاية بديري)8. في هذه المدرسة تفتحت الكثير من المدارك، وشهدت الكثير من الأحداث، حيث تعرفت إلى التيار الإسلامي ممثلاً في حركة الجهاديين، وأيضاً هربونا الجماعي عندما توقف أمام المدرسة مجموعة من الحافلات وانتشار خبر إنهم سيأخذوننا إلى تشاد، والتحقيق الجماعي الذي تعرضنا له، بعد ظهور مجموعة من الكتابات ضد القذافي، وكان نيب فصلنا أحد هذه الكتابات، لكن الجميل في الأمر إنه بعد توقف الدراسة ليومين عدنا لند المدرسة وقد طليت بدهان جديد.
لا أريد الحديث عن الجامعة، لأن علاقتي بها كانت مختلفة، ما يحضر بذهني حال ذكر الجامعة، إشارة أحدهم إلى موقف السيارات بكلية الهندسة: هنا شنقو الشباب.
2
لما كل ما فات من حكايات؟
السبب إن طرابلس ليست بيوتاً ومعالماً، فهي لم تلق حظها من الاهتمام، لتكون درة المتوسط، فهي (عروس البحر) بامتياز، وإن أهملت من قبل نظام القذافي، في محاولة للتقليل من شأنها، مقابل الرفع من شأن مدينة (سرت) التي ينتمي إليها.
طرابلس حياة. نعم لكل مدينة حكاية وحكاية طرابلس إنها حياة، فهي حياة من حياة من حياة، بدأت في تاريخ واستمرت، لم تكن مدينة القبيلة أو مدينة العائلة، كانت مدينة الجميع، وبالجميع بدأت، ولعل هذا انعكس في التعايش بين أبنائها، ولا يمكن لأحد أن ينسب نفسه لها (بقولة: انا طرابلسي) لأن طرابلس لم تنتسب يوماً لأحد، ولا تريد من ينتسب إليها تعصباً. هي مدينة بنيت على اختلاف الأعلاق والتوجهات والأفكار لتصهرها في بوتقتها (الطرابلسية).
طرابلس انتصرت على كل من غزاها، ليس انتصار القوة، بقدر ما هو انتصار روحها فيه، فلا يعود قادراً على تركها.
وطرابلس، فتحت ذراعيها لكل قادم. ورحبت به، ومدت الطرقات ليسعى وينطلق فيها، ويكسن جنباتها.
وطرابلس –أيضاً- لم تطرد أحداً، كانت الحض، كانت العاصمة.
3
إبان أحداث ثورة 17 فبرار المجيدة، كانت أسيرة في يد نظام القذافي، الذي لم يتخلى عنها، مركزاً فيها قوته، باعتبارها العاصمة، والمدينة المركز لكل ليبيا.
في يوم 20 رمضان (20-8-2011) انتفضت طرابلس عن بكرة أبيها وتحررت بفضل أبنائهاـ وتظافر جهود أبناء الوطن. لكن ما حدث كان مختلفاً لقد تحولت العاصمة إلى (نهبة) استقطعت كل كتيبة مكاناً لها وتمركزت فيه وتشعبت من خلاله. وصارت تتحرك داخل المدينة كما يحلوا لها دون رادع أو قانون يحمي المواطن البسيط.
تحولت مراكز هذه التشكيلات المسلحة إلى مقار أمنية، واستخبارات، وسجون، والمصيبة إنه استمدت شرعيتها من انضمامها إلى أجهزة الدولة كاللجنة الأمنية العليا، ولجنة مكافحة الجريمة، وغيرها، الأمر الذي منحها حصانة لممارسة ما تريد وما تقترف من أفعال، مالم يكن لك علاقة بكتيبة أو تشكيل ما يملك قوة موازية.
في ظل هذه التشكيلات الشرعية ظاهراً، تكون مجموعاتٍ داخلية وتشكيلات فرعية هدفها المال، بحيث صارت تعمل على النهب والسلب والترهيب، والخطف، أو تنفيذ أعمال مقابل مبالغ مالية.
وهكذا لم يعد المواطن آمناً على نفسه وماله وعياله، خاصة النساء، ففي سابقة هي الأولى من نوعها سجلت أثر من 30 حالة اختطاف فتاة في شهرٍ واحد. الأمر الذي منع الكثير من النساء من أداء دورهن الاجتماعي والوطني.
إن خروج سكان طرابلس يوم الجمعة 15-11-2013، جاء بعد فترة طويلة من المطالبات والمحاولات لإجبار المؤتمر والحكومة على إخراج هذه التشكيلات والمجموعات المسلحة من طرابلس، والعودة إلى مقراتها في مدنها التابعة لها، أما التشكيلات التي تنتمي للمدينة فعليها الانضمام إما للجيش أو للشرطة.
الحراك كان سلمياً ومن منطلق الحوار، وإظهار رفض الشارع لتواجد هذه التشكيلات المسلحة، الكل خرج بعد صلاة الجمعة يحملون أعلام الاستقلال والبيضاء والزهور وأغصان الزيتون، واللافتات، كانت المسيرة تجمع الطالب والعامل الفني والموظف، المرأة والرجل، الشيخ والشاب، الكبير والصغير، كلهم أمل أن يكونوا رسالة حب تنقل مطلبهم بخلوا مدينتهم، مدينة طرابلس، العاصمة، من مظاهر التسلح.
لكن ما حدث، كان مفاجأ. إذا حال دخول المسيرة إلى منطقة غرغور9، استقبلهم الرصاص، والذي جاء بأحجام مختلفة من طلقة الكلاشنكوف إلى طلقة الـ23، ومفرد وصلي. وكأن 20-2-2011 يعود من جديد، مع اختلاف المكان والجلاد.
بالأمس ودعت طرابلس أبناءها الشهداء في موكب مهيب، حيث احتفلت ساحة الشهداء بالصلاة عليهم. واليوم ها هي تعلن عصيانها المدني، الشوارع خالية، والمدارس بلا تلاميذ، والجامعات بلا طلبة، والدوائر بلا موظفين، والشوار بلا ناس.
4
وما كانت الحصيلة:
43 قتلى، نحسبهم عند الله شهداء.
460 جريح، دعواتنا لهم بالشفاء.
أداء ضعيف للحكومة. وهشاشة الدولة.
عصبية وشعبوية مفرطة. لتتحرك مدينة مصراتة بسلاحها لمهاجمة طرابلس10.
تعنت وعدم اعتراف بالخطأ.
من الرابح: لا أحد.
من الخاسر: الشعب.
وطرابلس، مازالت تناضل من أجل دورها التاريخي، ومسؤوليتها.
*
حفظ الله طرابلس.
حفظ الله ليبيا.
_____________________________
1- بن عاشور: أحد أحياء طرابلس، وهي تقع شرقي مركز المدينة.
2- السواني: جمع سانية، وهي المزرعة الصغيرة.
3- البتش: الكرات الزجاجية المستخدمة في اللعب.
4- الرشقة: أحد ألعاب الأطفال، يستخدم فيها سيخ حديدي أو سكين يرشق في الأرض في لعبة لتقسيم المساحات.
5- القنبالي: الحذاء المطري.
6- فشلوم: أحد أحياء مدينة طرابلس، ويقع شرقي مركز المدينة.
7- الضهرة: أحد أحياء مدينة طرابلس ويقع شرقي مركز المدينة على البحر.
8- وسعاية بديري: أحد أحياء مدينة طرابلس، ويقع شرقي مركز المدينة القديمة.
9- غرغور: أحد أحياء مدينة طرابلس، ويقع جنوب مركز المدينة.
10- وصول رتل قوامه 250 سيارة ليلة 15-11-2013 ومنع من الدخول عبر تاجوراء.