آخر مرة رأيتها فيها، كانت قبل أكثر من 20 عاماً، حيث جمعنا النشاط الجامعي في أحد أمسياته، كانت تقرأ كلماتها في هدوء وثقة، قبل أن تضج القاعة بالتصفيق عند آخر كلمة.
لكن هذا اللقاء كان مختلفاً، فلم أرى الـ”غادة” التي عرفت، لم تكن السنين، ولم تكن مصاعب الحياة، إنما: الليبيين!!!.
في ذلك اللقاء العارض، لم يكن سهلاً علي أن أتركها تمضي في حالها، بعد ما رأيت حالة الشقاء البادية على وجهها، فبالرغم من اختلاف توجهاتنا الدراسية، جمعنا النشاط الجامعي، لتبدأ علاقة يجمعنا فيها هم الكتابة، ورغم طلبي منها نشر ما تكتب، إلا إنها لم تستجب أبداً، ولو لمرة واحدة، ظلت تشارك في الأمسيات الجامعية، وتحفظ ما تكتبه في حقيبتها، أو مذكراتها.
تخرجت من الجامعة في 1996، ولفارق العمر، تخرجت في 1998، ومنحها تقديرها الفرصة للعمل بشكل سريع في أحد الجهات العامة، وما هي إلا سنوات حتى ترأست القسم الذي تعمل به، بالرغم من وجود من هم أقدم منها، لكن ثقافتها، وخلقها وكفاءتها، قدمتها ولم يعارض أي من زملائها في هذا، بل كانوا الأكثر فرحاً منها. هذا التميز المهني، دعمه تميز على مستوى كتابة التقارير والملخصات، واستخدام الحاسوب، فأسنت إليها مهام تتعلق بالإدارة، فكانت تقاريرها مضرب الأمثال، الأمر الذي جعل أكثر من جهة تطلبها للعمل، أو لمجرد التعاون من أجل إعداد التقارير والمراجعات. الأمر الذي أبعدها عن مجال تخصصها، ودفعها لدراسة الإدارة، والحصول على درجة الماجستير فيها، كما إنها دعمت نفسها بسلسلة من دورات اللغة الإنجليزية، فأجادتها.
تقول: كل شيء تغير بعد حرب المطار!!!. فلقد وجدنا أنفسنا هدفاً مباشراً لغضب الجميع، والسبب إننا ننتمي إلى مدينة (…….).
فخرجت صحبة إخوتي وأخواتي، بالملابس التي علي فقط، ومبلغ لا يتجاوز الـ100 دينار، واتجهنا لمدينتنا. حيث وجدنا الوضع على غير المعتاد.
بقينا هناك لأكثر من 8 أشهر، مرت صعبة، عشناها في تقشف، وضغط نفسي وعصبي.
ثم قررت العودة، للعديد من الأسباب، وساندتني أختي التي ليدها ابنة تدرس بالجامعة، وأختٌ أخرى تعمل، وهي مثلي تأخر زواجها.
نزلنا باتجاه طرابلس، وكلنا توجس، وخوف.
توقفنا طويلاً عند مدخل طرابلس، قبل الدخول، وتوقفنا أكثر عند بداية حينا، وكدنا نرجع، لولا روح المغامرة التي لدي.
اوقفت السيارة أمام البيت، كانت ثمة جار، ينظف أمام البيت، فسارع إلينا مرحباً، وأخرج زوجته التي احتضنتنا وهي تبكي، وتستذكر روحي أمي وأبي.
كان البيت يعاني من بعض الأضرار، فقد تهجم عليه من قبل مجموعة مسلحة.
دخلنا البيت، وكان هادئاً، فوجدنا أنفسنا نحن الأربعة نبكي، بحرقة.
مرت الليلة الأولى، هادئة، ربما بسبب التعب، نتيجة الترتيب والتوظيف والتنظيف.
في الليلة الثانية وعند صلاة الفجر، أحسسنا بحركة في فناء المنزل، وما إن نبهت أختي الكبرى حتى وجدت الباب يفتح علينا، وكنا أربع نساء بوسط البيت وبملابس النوم.
وتستمر “غادة” في متابعة حكايتها: تقدمت باتجاه الشخص الذي ظننت إنه الآمر، مستفهمة عن سبب هذا الاقتحام، فرد علي إنهم يريدون الرجال الذين معنا.
فأجبته، إن من في البيت هم من النساء، وإنه لا رجل يوجد بالبيت، ولا حتى طفل. وأن بإمكانه التفتيش، للتأكد.
سألتها عن أخبار العمل؟
هنا ابتسمت: لم أذهب للعمل منذ عودتي؟ اكتفيت بالعمل في مدرسة قريبة من البيت، كمديرة لمعرفة صاحبها بإمكانياتي.
تقول: صرت أتحاشى الاختلاط بالناس، أو المشاركة في المناسبات الاجتماعية، أو حتى قضاء مصالحي الشخصية في الجهات العامة، حتى أني لم أتكلم مع أحدٍ لفترة طويلة، كما أتحدث معك الآن.
استغربت، لكنها تابعت: لكل كل الحق فالاستغراب. ولكن ما حدث معي أكثر مما يحتمل.
قبل عامٍ كنت أحتاج لإصدار جواز سفر، فسارعت للتسجيل بالمنظومة، ووقفت كما بقية الناس حتى وصلت للتصوير، وفي اللحظة التي كنت فيها على وشك الجلوس والتصوير، دخل أحد عناصر الأمن، للغرفة، وعندما خرج تلاقت نظراتنا بالصدفة، فوجدته يأمرني بالوقوف والخروج، وهو يصيح:
كيف مخليين هالـ(…….) تخش هني وتصور؟!!!؟
وأخرجني بالقوة، وعندما اتجهت للشكوى، وجدت الجميع يقابلني بذات السلوك، فحمدت الله لخروجي سليمة.
نفس الموقف حدث معي قبل أسابيع في المصرف، عندما أخرجت من الطابور لذات السبب، كوني من (…….).
نظرت إلي، وعلى وجهها ابتسامة حزينة: أتريد سماع المزيد؟
أجبتها: لا!!!
وقبل أن نفترق، قالت لي: الحمد لله، أني مرتاحة في المدرسة، الكل يحترم فيا، ويقدر فيا، من البواب للمدير، والمدير عمره ما رجعني في قرار.
فرددت: الحمد لله!!!