دمُ الشهداء
في أحد الصباحات الباكرة بمطار معيتيقة، وكخاتمة لحديث عن ثورة 17 فبراير، والحراك الذي يعيشه المجتمع الليبي، علق أحد الأصدقاء: خايف يجي يوم يلقى الأب والأم إن دم ولدهم راح بلاش.
وضاع دمُ الشهداء باكراً يا صديقي، لم نمهله حتى يجف. تاجرنا به وقايضنا به. تحول هذا الدم الطاهر الذي زكى به هؤلاء الشباب ثورتنا المباركة إلى وسيلة للترزق والضغط. الكل الآن شهداء، حتى من مات خطأً أو في حادث سير، صورته في الميادين وعلى مداخل الشوارع، الشهيد فلاد، والشهيد علان. ولما لا مادام سيدفع ثمن هذا الدم بالعملة المحلية والأجنبية، وكمنحة حج، وعلاج ودراسة. ولم لا تحتل الجرحى قاعة المؤتمر الوطني للضغط والحصول على المكاسب، ولم لا يتم التعاطف معهم وتمكينهم من مرادهم. وخيانة الثقة والرد عنهم بالسلاح.
أيها الثائر، الرائع؛ عندما خرجت مواجهاً الظلم صادحاً (الله أكبر)؛ هل كنت تنتظر جائزة الدنيا؟ وتمني نفسك بها؟. لتأتي من بعد وتتكلم باسم ليبيا والليبيين؟!!!؟
أخْـــلاق
في حديث عن الثورات العربية، جمعني ببعض الأصدقاء في القاهرة، علق أحدهم على ما يحدث في الشارع المصري: الثورة طلعت أوسخ ما فينا.
لحظتها صمتت، خفت أن أقول والأمر لا يختلف كثيراً عندنا. فنحن نسقط في كل يومٍ ألف مرة في حفر البذاءة وقلة الأدب، ولم يعد من السهل أن تقوم بزجر أحدهم، لأنك لا تضمن ما سيخرج به، فتحاول ما استطعت التغاضي ومحاولة كسب مهارة الصمم.
وحتى لا نذهب بعيداً في التشاؤم، ثمة أسهم أخلاقية ارتفعت بعد 17 فبراير، ارتفاعاً ملفتاً وعالياً. الرشوة على سبيل المثال لم يعد لها من سقف يحدها أو أرضٍ تنزل إليها، حدودها مفتوحة ولا سقف، (المهم تدفع، باش تمشي أمورك). سهم آخر ارتفع، ونعني ارتفاع نسبة مستهلكي الخمور والحشيش، فكلاهما انتشر بشكل كبير (وعلى عينك يا تاجر)، ولا أصدق من دليل على هذا الأمر، من تصدر أخبار القبض على مهربي الخمور والحشيش لنشرات الأخبار، وتواجدها الدائم على شريط الأخبار، كما وتعكس حادثة التسمم التي أصابت العشرات من الشباب على إثر تناولهم لـ(بوخة) ملوثة كما أفادت التقارير الإخبارية، العدد الكبير لمتعاطي الخمور في ليبيا –وطرابلس تحديداً، محل الواقعة-. أما الحشيش وغيره فيكفي أن الكميات التي يتم ضبطها تجعلك في حيرة من أمرك.
كما ويحسب لهذه الثورة إنها قضت على الكثير من العادات والأخلاقيات، فمبدأ (لحسني ونلحسك) انتهى، لأنه (يلحسها من أصلها)، كما واختفت أيضاً (الطايح مرفوع) لأن الطايح (ما يلحقش يتحلحز من مكانه).
وهي أيضاً -أي ثورة 17 فبراير- ساعدت على إنتاج مبدأ جديد، هو في ذاته مبدأ قديم تم تحويله، فـ(رزق حكومة) الذي كان، تحول إلى (رزقي ومحروم منه) ومن حقي أخذه. وهذا تحول في صور كثيرة؛ تمشيط، وتكبير، وغنائم.
بـنـاء
بعد حمى هدم الأضرحة وتشويه المعالم التاريخية، جاءت حركة البناء.
ولكن أي بناء؟. إنها حمى استغلال الفراغ القانوني وغياب سلطة الدولة. فلا يوجد شارع في طرابلس لا توجد به ورشة بناء، أو شاحنة ترفع الهدم. شوارع تغيرت معالمها، لتتحول إلى شوارع تجارية وهي بالكاد تحمل سيارة في كل اتجاه، سلسلة من المحلات والمقاهي والمطاعم. الأمر الذي يعكس حال المواطن الليبي المستهلك، حتى طغت ثقافة الاستهلاك عليه، حاصرته. في أقل من شهر تحولت أحد واجهات الجهات الأمنية السابق إلى صف من المحلات والمقاهي، السؤال: من المستفيد؟ أي من ملاك هذه المحلات؟ وباي صفة قانونية يتم تأجيرها واستغلالها والربح منها؟ والصرف منها على الأهل والولد؟!!!؟ (نحن شعب مسلم).
حمى البناء لم تقف عند هذا الأمر، بل تطورت بشكل سريع، عكس الحاجة والغاية ومحاولة الاستفادة مما يتاح. فهذا يحاول أن يستغل الحديقة ليحولها إلى (قهوة ارجيلة)، وهذا يحول جزء من الرصيف إلى (قهوة)، وغيرها يغير على الرصيف ويقفله ليضمه إلى مقهاه محيطاً إياه بسياج خشبي مزين ومزخرف. مسكين أيها الرصيف في بلادي. أحياناً أتساءل عن الجدوى منه في بلادٍ لا تحترمه أه أو لا تحترم الراجلة.
بناء من نوع آخر، راحت ضحيته الغابات. فبكل دمٍ بارد اجتيحت أكثر من غابة، اقتلعت الأشجار، وجرفت الأرض، لأجل أن يغزوها الإسمنت، ويرتقي. في الكثير من أحيان تؤرقني العلاقة بين الليبي والإسمنت، كيف وقع سريعاً في غرامه، وهجر أرضه بهذه السهولة. ومازال البناء مستمراً.
17 فبراير
لم تأتي لتحررنا من ظلم وجور طاغية، إنما أرداها الله لتضعنا في مواجهة حقيقة أنفسنا، هل نحن على قدر المسؤولية لبناء دولتنا، أم إنا الأمر أكبر من احتمالنا؟
هل كان علينا الانتظار حتى تأتي 17 فبراير لترفع الغطاء عن سوءاتنا؟ وتضعنا أمام حقيقتنا كمجتمع ليبي عاش في فكرة الأول والأفضل.
نعم 17 فبراير كشفتنا، ورفعت الغطاء عن المرآة التي كنا نخاف النظر إليها. وعلينا أن نسجل لهذا التاريخ الفضل في معرفة الكثير عن المجتمع الليبي، الذي عاش سنوات حبيس التعتيم والانكفاء على ذاته، قلقاً محاصراً. وعندما حانت الفرصة واكتشف أنه لا رقيب، انطلق دون غطاء.
يقول أحد الأصدقاء: الليبي في عهد “ادريس” كان يتحشم.. وفي عهد “القدافي” كان يخاف.. وتوه لا يخاف ولا يتحشم.