حوائط طرابلس، صورة وواقع
1
عندما وقف ابني “يحيى” في مواجهة الحائط ممسكاً في يده مجموعة أقلام التلوين، انطلق في داخلي صوت قديم:
– ما تخربشش عالحيط.
تبعتها ضربة موجعة على يدي.
وعندما ذهب تأثير اللسعة، وجدت “يحيى” يلتفت إلي، مبتسماً:
– تا تا تا.. مفاجأة.
– ما هذا؟
– هذا الكون!!!
2
الحيط في اللهجة الليبية هو الحائط أو السور في العربية، وخاصة في مناطق غرب ليبيا، أما في مناطق الوسط والشرق، فـ(الحيط) هو الجمع لمفردة (الحيطة) وهي (الحَجرة). ولأن سكان طرابلس (مخلطين) كما يقال، فإن للحائط مجموعة من المرادفات المحلية؛ الحيط، الساس، السور. وهي تطلق على الحوائط بدون تخصيص على أي حوائط، سواء كانت لأسوار خارجية، أو حوائط منازل. وفي طرابلس ثمة منطقة تعرف بـ(طريق السور) وهي تنسب للطريق التي كانت تحاذي سور طرابلس القديم أو (الكردون)1.
3
ترتبط الحوائط في ذاكرتني بالمنع، فكما منعت من الكتابة عليها صغياً، ظل هذا المنع يرافقني حتى تمكن مني رقيب داخلي، أجده يهلب يدي بعصاه الرقيقة كلما حاولت الكتابة على الحائط. فالكتابة على الحوائط والأسوار، فعل مجرّم، وغير جائز، ولا يقوم به إلا (الزوفرية)2 و(اللي مش متربيين)، هكذا صدح مدير المدرية ذات صباح.
4
حكايتي مع الكتابة على الأسوار والحوائط، تبدأ من مشهد لازلت أحتفظ به في ذاكرتي، رغم بعد الزمني الكبير، إذ مازلت صغيراً لحظتها، عندما سمعت أحدهم يقرأ جملة كتبت على السور الخارجي لـ(معهد الشيماء)3 باللون الأسود (الحب عذاب في قلوب الشباب)، وحتى تُؤكَّد هذه اللقطة في ذاكرتني، سحبني أبي سريعاً.
ثاني هذه الذكريات، رسم فاضح بحجم كبير على السور الداخلي لـ(مدرسة الفيحاء الابتدائية)4، جهة ملعب الكرة، وخطبة عصماء من مدير المدرسة الأستاذ “علي” عن الأخلاق، والتربية، وأنه من الضروري احترام المدرسة وسور المدرسة، وأن يظل نظيفاً. في 1978 عندما دخلت المدرسة الابتدائية، كانت أسوار المدارس نظيفة ولا تحمل أية كتابات أو رسومات، إلا الممر الرئيسي للإدارة إذا كانت تزينه بعض الجداريات، التي كان يرسمها أساتذة التربية الفنية. وأستطيع أن أتذكر بشكلٍ جيد لوحة البادية التي كانت تزين ممر الإدارة بمدرسة (أحمد رفيق المهدوي – الإعدادية)5.
وبالرغم من خربشات التلاميذ على حوائط الفصول، والمقاعد، لم أجرؤ يوماً على القيام بهذا الفعل، إلا على السبورة، أو الورق لسهولة التخلص منها بشكل سريع ونهائي.
الحيط، كان مرادفاً للتلاميذ الضعاف، وحيث كان النظام المتبع، أن تترك الصفوف الأولى للشطار وأبناء المدرسين –المطلوب منهم أن يكونوا متميزين-، وتترك الصفوف التالية لبقية التلاميذ. أما (صفة الحيط) فهي مخصصة للطلاب الأقل حظاً تعليمياً، ومن أعادوا السنة، والكبار والتلاميذ المشاكسين. وله الحمد لم أتخط الصف الثالث طوال سني دراستي الابتدائية. أما أشهر عقاب مدرسي كان: أوقف عالحيط.
5
– مافيش قراية اليوم.. روحوا.
كان مدير الثانوية، يتحرك بعصبية، أما الآمر العسكري فجمع الجنود، حوله في دائرة.
– شن فيه؟
– قالوا القو كتيبة في المدرسة!!!
– كتيبة شنو؟
– كتيبة ضد القدافي!!!
وانطلقنا (رجلينا في غمرنا)6، وكأن أحداً سمعنا.
– سمعت؟
– شنو؟
– قالوا شدو “…………” آمس.
في صباح اليوم التالي، وجدنا المدرسة مطلية بالكامل، وعكس توقعاتنا سارت الأمور بشكل طبيعي. لكن الأمر تكرر، واشتهرت مدرستنا الثانوية (أسد الثغور – جحفل الأبرار البري)7 بالكتابات التي تظهر على حوائطها الداخلية وفي الممرات.
ولقد شهدت شوارع طرابلس الكثير من هذه الكتابات خاصة بعد تاريخ (أبريل 1986)8، فكانت الكتابات تظهر هنا وهناك في شوارع طرابلس، وفي منطقة (بن عاشور) حيث أسكن، كان لنا نصيب، وبشكل خاص الشارع الرئيسي. ولازلت أذكر كيف تحدث “القذافي” في أحد لقاءاته، عن الكتابة على الحوائط، وأنه في بلد الشعب فيه هو السيد، والمواطن يتمتع بسلطته وثروته سلاحه، لا ضير من أن يكتب المواطن اسمه أسفل ما يخطه على الحيط. والنتيجة؛ اختفت بخاخات9 الطلاء من محلات بيع مستلزمات ومواد البناء، وصار وجودها مع أحدهم تهمه توصلك لـ(دار خالتك)10.
ذات يوم، من أيام الثانوية، وقتها كنت في السنة الثانية ثانوي، دخلنا الفصل ولحظة جلوسنا، التفتنا على صياح “جمال”: كتيبة عالحييييييييييييييط.
وفي لحظات فرغ الفصل، واتجهنا صوب الإدارة.
في اليوم التالي كان الفصل قد طلي، وبدأت شخصيات -يقال إنها من الأمن الداخلي- بدأت في زيارتنا، في اليوم الأول، طُلب منا تعبئة وثيقة تعارف، تحوي أكثر من 10 صفحات، ووجدنا الكثير من الصعوبة في تعبأتها لما فيها من معلومات، عن نفسي كنت قاصراً عنها، كأن أسأل عن أقرباء من الدرجة الثالثة والرابعة، ووظائفهم، وهكذا. ثم طلب منا كتاب موضوع معين على مجموعة من الأوراق.
في اليوم التالي، دخل في الصباح شخص، تحدث بشكل هادئ ورصين، ثم خرج ليعقبه شخص آخر، توقف عند السبورة، ثم بدأ بتفرس وجوهنا واحداً واحداً، فكان يقف عند كل مقعد، يتأمل الوجه ثم ينتقل للتالي، وهكذا.
وقبل النزول للاستراحة، دخل شخص يحمل في يده آلة تصوير، تشبه إلى حد كبير آلات التصوير التي نراها مع المصورين في تغطية الأحداث الكبيرة، وقام بتصويرنا واحداً بعد الآخر. ومن تاريخه، وحتى حصولي على الشهادة الثانوية، لم يحدث أن ظهرت أي كتابة على الحائط.
6
– خلاص، نصلوا العصر في الجامع ونمشوا للخلوة.
كانت الخلوة قريبة من الجامع، تم إنشاءها حديثاً، وفي الحجرة الرئيسية لتدريس القرآن، وقفت أمام الحوائط مشدوهاً باستوائها وبياضها.
– شنو، هي نبدوا؟
– توكلنا على الله.
بالرغم من كوني أمارس الخط العربي منذ سنوات قليلة، بدأتها مع دخولي الثانوية، إلا أنها المرة الأولى التي سأمارس فيها الخط خارج اللوحة، على الحائط، وما أدراك ما الحائط.
– متأكد إن الشيخ مش حيقول حاجة؟
– تي خيرك خايف، هكي؟ توكل على الله. والشيخ شوية وبيجي.
المرة الثانية، كانت بطلب أحد الأصدقاء لكتابة عنوان محل، والثالثة كذلك، ثم لم أعد أخف من الكتابة على الحائط، طالما الأمر محصور في الإعلانات. وحدها مقولات القائد والكتاب الأخضر من كانت تملك حق الظهور على الحوائط، وباللون الأخضر.
في الجامعة، كانت حوائط الممرات متنفساً.
فهذه مسألة في الرياضيات تحتل ركناً في بداية ممر قسم الطيران، وهناك غيرها في نهاية الممر، وكثير في باقي الممرات، خاصة قسم الكهربائية. هنا حرفان لمعادلة عشق، وهناك حرفان لمعادلة فضيحة.
7
خارج هذه الحدود كان يمكن للمواطن أن يكتب:
– ممنوع وضع القمامة هنا.
– اللي يرمي القمامة ……………..
– ممنوع إيقاف السيارات هنا.
إبان فترة التحرير، يمكن أن نقول إنه موازاة للمواجهات المسلحة، كانت ثمة مواجهة أخرى، ساحتها الحوائط). فكانت توثق للمنتصر، ولمن مروا بالمكان، كان كلا الطرفين لا يخاف كتابة اسمه، وعقيدته، والمنتصر هو من يأسر الحائط.
في طرابلس، كانت الحوائط أحد الأسلحة التي قاوم بها ثوار المدينة النظام، كانت الكتابات تظهر، بدون أن يمكن لأجهزة الأمن التنبؤ بها، أو الوصول إلى منفذيها، بعد التحرير، لا يكاد يوجد في طرابلس حائط لم يكتب عليه. وصار مصطلح (ثوار البخاخات) يطلق على كل من استخدم (البخاخات) للإعلان عن نفسه، دون أن يكون له دور حقيقي في الثورة.
8
بانتهاء نظام “القذافي” لم يعد في ليبيا أي سلطة منع. فجأة وجد الليبي نفسه بدون أي قيود أو حدود أو رقابة. ولأنا نركز على الكتابة لا على الرسم والتشكيل في مسألة الحوائط. نقول؛ إن شهية المواطن الليبي فتحت لممارسة حريته على الحوائط. حتى ليمكنني القول، إن هذا الفعل أو السلوك، يصلح مادة للبحث العلمي، لمعرفة ما مر بالمجتمع من تغيرات. فهي تعكس بصورة مباشرة، ما يريده المواطن، وما يفكر فيه.
9
فبعد تحرير طرابلس، نقف على نوعين من الكتابات؛ النوع الأول، يوثق للثوار الذين توافدوا من خارج طرابلس، يوم 21-8-2011، كنوع من إثبات الوجود، وتحديد مناطق تواجدهم وسيطرتهم. النوع الثاني، أسميه (ملكيات) وأقصد الكتابات التي ظهرت على بعض المباني والساحات: من قبيل (ملك مقدس لعائلة ……..)، و(ملك لورثة المرحوم …………)، و(عمارة …………). ولأنها لم تنتشر بشكل كبير، لا أعول على بعض الكتابات التي تصف من وقف ضد ثورة 17 فبراير وتصفهم بالـ(الطحالب، الجرذان،……..).
وبعد إعلان التحرير، بدأ نوع جديد من الكتابات بالظهور، وهي كتابات تحمل طابع المرحلة وأمل المواطن بغدٍ يتحقق فيه حلمه بليبيا جديدة وواعدة. الجميل في هذه المرحلة هو جمال تكوين هذه الخطوط، والرسوم التي حفتها.
حتى الوصول لمرحلة انتخاب (المؤتمر الوطني العام) وبدأ عمله، كانت الكتابات تؤرخ لشهداء المناطق والأحياء والشوارع، حتى إنه لا يكاد يخلوا شارع من اسم شهيد. أيضاً شهدت هذه المرحلة بعض الكتابات التي تطالب بعودة الشرطة والجيش، خاصة عندما تم الاعتداء على مركز (باب بن غشير). ولأنها انتخابات، كانت الحوائط ساحة لممارسة وعرض خيارات المواطن، ومناكفة منافسيه.
وأنا أتجول في شوارع طرابلس، أتوقف كثيراً عند بعض الكتابات التي تعبر عن حاجة المواطن للأمن والسكينة، والظفر بسكن، وتكوين أسرة. أو أتأمل بيت شعرٍ يتحدث عن الأسود والكلاب، أو تحديد شخص باسمه، أو بوح.
وأستطيع القول، إنه من تاريخ إقرار (قانون العزل السياسي) عرفت الكتابات على الحوائط مرحلة جديدة، مرحلة عكست طبيعة المرحلة والصراع الحاد بين الكتل السياسية، فبدأت تظهر بشكل علني كتابات موجهة لشخصيات وأحزاب وتوجهات سياسية بعينها، وعلى ذات الحائط ستجد حشداً من جمل وعبارات يضاد بعضها بعضاً.
إن ما تعرضه الحيطان والحوائط والحيوط، حالة من الفراغ السياسي الكبير الذي تعيشه ليبيا، فأنت تقرأ واقع ليبيا المتشابك، بشكل واضح وجلي، وتستطيع أن تكتشف الكثير مما يعيشه المواطن، خاصة عندما تتزامن هذه الكتابات وأحداثٍ بعينها. ستكتشف كم من السهل توجيه المواطن وتسييره، وبشكل صريح اللعب به. ثمة بعض الكتابات تتمتع ببعض الخصوصية، وهي تتأتى من طبيعة المنطقة، أو الحي، والحدث الذي تسجله.
وفي المجمل، إن هذه المساحات التي ظلت لسنوات مهملة، ها هي الآن تأن تحت وطأة ما احتشد خلال هذه السنوات من ظلم وقهر.
__________________________________
1- الكردون، سور بناه الإيطاليون حول طرابلس، من البحر إلى البحر، ومازالت بعض أجزاءه موجودة حتى تاريخ اليوم.
2- الزوفري: غير المؤدب وتطلق على كل خارج عن الآداب العامة.
3- معهد الشيماء؛ معهد للمعلمات كان موجوداً بمنطقة جامع الصقع في بداية (شارع الضل)، واستبدل من بعد بمدرسة (صلاح الدين الأيوبي الإعدادية).
4- مدرسة الفيحاء؛ تقع بمنطقة فشلوم، درست فيها المرحلة الإبتدائية من تاريخ 1978 وحتى 1983.
5- مدرسة أحمد رفيق المهدوي؛ مدرسة إعدادية تقع بمنطقة الضهرة، درست بها من العام 1983 وحتى 1986.
6- رجلينا في غمرنا؛ دلالة على السرعة في الهرب خوفاً.
7- مدرسة أسد الثغور الثانوية؛ تقع بمنطقة (وسعاية ابديري) وكانت في الأصل (مدرسة زاوية الدهماني الثانوية)، وتم نقلها إلى المقر حيث درست، في السنة الأولى ثانوي تم إلغاء القسم الأدبي واستبدال البحرية كنظام عسكري بالصاعقة.
8- تاريخ الهجوم الأمريكي على طرابلس وبنغازي.
9- بخاخ؛ علبة مضغوطة تحتوي على طلاء. تستخدم في عمليات الطلاء السريع للمساحات الصغيرة.
11- دار خالتك؛ المقصود الحبس أو السجن.