تستدعي ذاكرتي في هذه الأيام، وبشكلٍ كبير، ذكرياتي طفولتي الأولى ومرابع صباي بمنطقة (تقسيم التواتي) بـ(حي المنشية – شارع بن عاشور)، وبشكل خاص العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط سكان الحي. والذين شاء القدر أن يكونوا خليطاً محلياً وعربياً وأجنبياً، تعايش في سلام، ورسم مشاهد لازلت في ذاكرتي، ولن تغيب.
وأعتقد إن سبب اقتناعي بالقومية العربية، وحقيقة الوحدة العربية، والوطن العربي الواحد من المحيط للخليج، هو حينا الذي كان يضم تشكيلة عربية، أثرت في كثيراً، كوننا لم نلاحظ أي فرق يمارس على هذه العائلات، بل على العكس كانت مقدمة دائماً، ومحترمة بشكل كبير. وكنت أجد متعتي في اللعب مع أبنائهم ممن في مثل عمري، ومتعة خاصة هي الطعام. لذا ربما كنت الوحيد من سكان الحي من الأولاد، ممن تقبل الأكلات العربية المختلفة، دون أن يقول:
– رز باللبن!!! تي كيف تاكل فيه؟؟؟
فالبيت الملاصق لبيتنا، شغلته عائلة مصرية، كان الأب مدرساً للغة الإنجليزية بمدرسة (علي وريث الثانوية)، والأم مدرسة للتدبير المنزلي بمعهد (الشيماء) ، وذقت وذاق الجيران من يديها، أحلى أنواع الكيك والحلويات، إضافة للملوخية والكشري، وطاجن الباميا.
البيت التالي، كانت تشغله عائلة لبنانية، من بعلبك. الأب كان محاسباً، والأم ربة بيت بامتياز. كان المقدوس والخيار المخلل لا ينقطع، إضافة للمربيات، والزيت وزعتر. أما أشهى الأكلات والتي كلما أتيحت لي الفرصة لطلبها لا أتردد، فهي (الشيشبرك)، دون أن أنسى التبولة، والحمص، والكبه، وعرايس اللبنة.
ثلاث عائلات مصرية –أخرى- كانت تسكن الحي، والعائلات الثلاثة رغم انتسابها لمصر إلا إنها توزعت جغرافياً، فالأقرب كانت من مدينة القاهرة، كان مذاق الطعمية عندهم مميزاً، إضافة لطبيخة البازلاء. والثانية من الفيوم، كانت مميزة في طريقة طهي للفول المدمس، والرقاق. والثالثة، من الإسكندرية، إبداع في شي الأسماء، وطهي أرز الصيادية.
كنت وابن العائلة الفلسطينية –جيراننا- الأكبر، يجمعنا الاهتمام بالابتكار والاختراع. كانت المقلوبة طبقي المميز، وإن حضر المسخن، فذلك يعني التخمة. أما ورق العنب، فكنت أعجب من طريقة جارتنا، في صنعه وصفه بطريقة هندسية، تبهر كل من يراها.
أما لو أراد أحدهم، قياس مستوى احتماله للحار، فما عليه إلا بالهريسة التونسية، والتي كانت جارتنا مبدعة فيها، إضافة للكسكسي، وتستطيرة الكفتاجي.
كانت شرفة العائلة السورية التي تسكن قبالتنا، بهجة للنظر، وبالمناسبة جارتنا هي من اقترحت اسم اختي الثالثة. كانت الشرفة تتزين ببرطمانات المربى والمخلل، قبل سحبها للداخل، كانت جارتنا تتركها تبرد، على رفٍ في الشرفة قبل سحبها للداخل. كان طبقي المفضل شيخ المحشي مميزاً، والكبة أكثر بهاراً، خاصة الكبة باللبن.
***
كانت هذه العائلات تعيش في تنغم مع بقية العائلات والأسر الليبية في الحي. تعايش الجميع وكأنهم أسرة واحدة، لا فرق بين أفرادها، وإن اختلفت لهجاتهم وجغرافياتهم.
في المسجد القريب، كان الجميع يسجد في ذات الوقت، ويبتهل بذات الدعاء. وكان الحزن واحداً في خيمة العزاء، فهو مصاب الجميع، أما الفرح، فكان يوحد الجميع في حلبة الرقص، ويميز زغرودة جارتنا المصرية –حفظها الله-.
في رمضان، كنت ترى أطباق الذوقة تنتقل بين بيوتات الحي، وفي العيد تكتشف كم التنوع الحلوياتي على طاولة المطبخ، ولم أكن لأخطئ المعمول الفلسطيني، والكحك المصري.
***
الطريف في هذا الحي، إنه كان يشاركنا فيه عائلات أجنبية، من إيطاليا، والباكستان.
العائلة الإيطالية غادرت باكراً، أما العائلتان الباكستانيتان، فكانتا مميزتان، فالعائلة الأولى، كان رب الأسرة فيها يعمل مدرساً تقنياً في معهد (السبعة)، وكان المستشار الفني للجيران، خاصة أصحاب سيارات البيجو. وكان أرز البرياني الذي تعده زوجته لذيذاً وفواحاً.
العائلة الثانية كانت الأكثر اختلاطاً بعائلات الحي الليبية، فكانت ربة البيت تقوم بزيارة بيوت الحي الليبي كل عشية، يرافقها كوب الشاي بالحليب، كبير وساخن. وكان ابنها “شازو” يشاركنا اللعب في ساحة الحي. وعندما غادرت هذه العائلة الحي باتجاه بريطانيا، ودعها الجميع، وقررت هذه العائلة أن تخص كل بيت بقطعة من أثاثها، فكان نصيبنا، جهاز بيك أب. وبالمناسبة جارتنا الرائعة هذه، كانت مميزة في خبز النان، والشباتي.
***
كانت هذه العائلات تساهم في بناء ليبيا، من خلال المهام والوظائف التي كانت تؤديها، والتي كان الليبيون في حاجة إليها، فكان منهم المدرس، والمحاسب المتخصص، والفني، والأستاذ الجامعي، والطبيب، والخبير القانوني، والمهندس. عاشوا بيننا، وقاسمونا لحظاتنا وقاسمناهم لحظاتهم. ولم نشعر باختلافهم عنا.
***
في اللقاء القادم، سيكون الحديث عن العائلات الليبية.