عندما يتعثر الغضب: تأملات في إخفاق حراك طرابلس الأخير

شهدت العاصمة الليبية طرابلس مؤخراً حراكاً شعبياً حمل آمالاً عريضة بتحريك المياه الراكدة في المشهد السياسي المتأزم. لكن ما إن هدأ هدير الأصوات حتى بدا أن هذا الحراك لم يحقق أكثر من صرخة عابرة في فضاءٍ مكتظ بخيبات سابقة. فبدلاً من أن يشكّل نقطة تحوّل، انضم إلى سلسلة محاولات متعثّرة لم تنجح في كسر الجمود أو دفع عجلة التغيير.

غياب القيادة… الغضب بلا بوصلة

أولى نقاط الضعف التي عصفت بهذا الحراك كانت غياب قيادة واضحة. لم تظهر أي جهة أو شخصية قادرة على توجيه الدفّة، وتوحيد المطالب، وصياغة خطاب جامع. فبدت الاحتجاجات أقرب إلى تجمّعات غاضبة بلا خطة أو هدف محدد. والقيادة هنا ليست مجرد واجهة أو ناطق إعلامي، بل عقل جماعي قادر على بناء رؤية، واستراتيجية طويلة النفس. ومن دونها، تلاشت موجة الغضب بسرعة، تاركة خلفها شعورًا بالإحباط أكثر من الأمل.

تعدد الأهداف… وتبعثر الأصوات

لم يكن للحراك رسالة موحّدة. كل مجموعة حملت معها مطالبها الخاصة، وأولوياتها المختلفة. هذا التشتت جعل من الصعب على الحراك أن يُحدث تأثيراً حقيقياً، فالقضية الوطنية تاهت وسط زحام الشكاوى الفرعية. والأسوأ أن بعض الأطراف المشاركة بدت وكأنها تميل ـ ولو ضمنيًا ـ لجهات سياسية بعينها، وهو ما أضعف الموقف الشعبي وجعله يبدو وكأنه امتداد لصراع نفوذ، لا تعبيراً صادقاً عن تطلعات الشارع.

السلمية… مفهوم بحاجة إلى تجديد الفهم

رغم رفع شعار “السلمية”، شهد الحراك بعض التصرفات التي خرجت عن إطار الاحتجاج الحضاري، ما منح خصومه الذريعة لتشويهه أو قمعه. السلمية ليست مجرد شعار، بل هي ممارسة واعية تتطلب الانضباط، والحفاظ على الممتلكات، واحترام القانون، حتى في ذروة الغضب. وهذا الوعي كان غائبًا في بعض اللحظات، مما أضعف المصداقية وزاد من هشاشة الحراك.

ضبابية الاتجاه… هل يكفي التجمهر أمام مؤسسة؟

اتجه المحتجون نحو مبنى رئاسة الوزراء، وكأنهم يرون فيه مفتاح التغيير. لكن في ظل الانقسام السياسي والمؤسسي العميق الذي تعانيه البلاد، فإن التركيز على جهة واحدة بدا قاصراً. فالتغيير الحقيقي يحتاج إلى مقاربة شاملة، تشمل بناء تحالفات، وخلق ضغط شعبي منظم، وتوسيع دوائر التأثير لتشمل مختلف مفاصل الدولة والمجتمع.

غياب الاستمرارية… واختفاء الأثر

لو أن الحراك اختار ميدان الشهداء – القلب الرمزي للعاصمة – كنقطة انطلاق لاعتصام دائم أو تواجد مستمر، لربما اختلف المشهد. فالحضور المتواصل في مساحة تحمل بعدًا تاريخياً يمكن أن يتحول إلى منصة مستدامة للتعبير، والتوعية، وتنظيم الجهود، مما يصعب تجاهله ويمنحه ثقلًا أكبر في ميزان السياسة.

الغوغائية… حين يعلو الصوت على الفكرة

ولعل من أكثر ما شوّه صورة الحراك هو طغيان الانفعال، وغياب التعقل في بعض الشعارات والمواقف. الأصوات العالية لا تعني بالضرورة وضوح الرؤية، والانجراف وراء دعوات غير مدروسة قد يحوّل أي حراك إلى أداة في أيدي من يسعون لخلط الأوراق أو تمرير أجنداتهم الخاصة.

في الخلاصة

ما أفرزه حراك طرابلس الأخير ليس إلا تأكيدًا على أن الغضب وحده لا يصنع التغيير. فالحراك الشعبي يحتاج إلى:

  • قيادة واعية تُجيد التوجيه وتوحيد الصفوف.
  • أهداف محددة وواضحة تلامس الوجدان العام.
  • التزام صارم بالسلمية قولاً وفعلاً.
  • استراتيجية مدروسة تتجاوز الرمزية نحو الفعل المنظم.
  • وعي عميق يُجنّب الحراك الوقوع في فخ الغوغائية والانفعال.

ليبيا تحتاج إلى غضب واعٍ، لا عاصفة عابرة. تغييرٌ حقيقي لا تصنعه فقط الحشود، بل تصنعه أيضًا العقول التي تعرف كيف تترجم الغضب إلى فعل ملموس، يراكم الإنجازات بدل أن يُراكم الخيبات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.