ليبيات 3.. عــزْل وغــزَل

عــزل

يكثر في هذه الأيام الحديث عن قانون العزل. وبغض النظر عن مشروعية إصدار هذا القانون من عدمه في غياب الدستور، إلا أن هذه لا يغير من حقيقة الأمر، ومدى إخلاص النية في إصدار مثل هذا القانون.

فإن كان القصد من القانون هو عزل كل من عمل في نظام الطاغية، فإن المنطق يقول بعزل (إقصاء) كل من عمل مع النظام طوال الـ42 سنة الماضية، في أي منصب أو وظيفة تحمل طابع المسؤولية، شاملاً كل من تصالح مع النظام وسايره، حتى يكون لهذا القانون معنى، بحيث لا يقتصر على من عمل مع النظام خلال السنوات الأخيرة أو من عمل ضد ثورة 17 فبراير المجيدة، وإلا فهو قانون يتم تفصيلة لعزل وإقصاء مجموعة بعينها، مما لا يبشر بسلامة النية من وراء هذا القانون، الذي نفترض إن الغاية منه هو المحافظة على ثورة 17 فبراير من المتسلقين وممن قد يؤثرون في مسيرة البلاد والخروج بها من إرث الجهل والتخلف.

وبالرغم من إيماني بضرورة العمل الجماعي والمشاركة بين كل الليبيين، دون النظر لخلفياتهم، وأن ليبيا تحتاج الجميع من أجل المرحلة القادمة، إلا أنني أؤمن بهذا القانون لعزل كل من استفاد وصعد على أكتاف الليبيين –حد الإدماء- لأجل مصلحته الشخصية، دون النظر لمصلحة البلاد، ولكل من كانت له يدٌ في استغلال العرق والجهد الليبي، واستحلال دماء الليبيين من أجل أن يستمر نظام الطاغية. ولكي يكون قانوناً حقيقياً، لابد أن يكون عادلاً في نظرته وآلية تطبيقه، ولابد أن يشرح بالشكل الصحيح للمواطن حتى يكون على مستوى من الوعي يمكنه من متابعة تطبيق القانون. وإلا دخلنا في دوامة التطبيق، بحيث يُساء استخدام القانون، ليتحول إلى وسيلة لحبس وإقصاء الغير، أو جسر لبلوغ مصالح شخصية، أو مشجب تعلق عليه الأخطاء.

فالشارع الليبي يعاني من حالة من عدم الفهم، وبمعنى أصح الوعي بماهية العزل السياسي أو الغاية منه، خاصة وإنك تسمع رجل الشارع يتحدث عن ضرورة السرعة إصدار هذا القانون وتطبيقه، لأن الموظف يريد إقصاء رئيسة المباشر في إدارته، والمدرسة تريد عزل مديرة المدرسة، والطالب يريد أن ينحي أستاذه، وبالتالي سينقسم المجتمع بين مطالبين بالعزل ومعزولين، ومن بعد سيتطلب الأمر قانوناً آخراً للتعامل مع من تم عزلهم،. والمعنى إنا سنجد أنفسنا دوامة، نحن كمجتمع في غنى عنها، ليكون اهتمامنا موجها لبناء ليبيا ومنصباً حول السبل والوسائل للخروج من إرث التخلف والخرف الذي عشناه لـ42 سنة.. والله من وراء القصد.

غــزل

لا يمل مؤتمرنا الوطني من مغازلة المواطن الليبي، ليس حباً –كما أظن-، بل محاولة لمص الاحتقان الذي يشعر به المواطن، وما يمر به من ظروف اضطراب الحالة الأمنية في البلاد، وفي ذات الوقت، دغدغة يقصد منها أن المؤتمر –ممثلاً في أعضائه- يعي حاجة المواطن الليبي واحتياجاته.

وتتمثل هذه المغازلات، في مجموعة من القرارات والنقاشات تمس المواطن اقتصادياً، فمن نية بإيقاف الفوائد على السلف والقروض، إلى زيادة علاوة العائلة، وزيادة علاوة السكن، والمرتبات، والعيديات، والمنح المالية للأسر والثوار، وغيرها. وفي ظني إنها محاولات الغاية منها كسب رضا المواطن، أو تسكينه، أو تخديره لبعض الوقت –كما يعلق أحدهم-، وهو أسلوب تعوده الليبي من قبل، ولم يعد يثق إلا فيما يتحقق من وعود أو قرارات، وفي ذات الوقت ينتظر أن ينتصر له المؤتمر ولحقوقه المسروقة منه لأكثر من 40 عاماً، عانى في ضيق العيش، حد أن يضطر فيها لاستحلال الربا من أجل بناء 90 متراً (يدك فيها راسه هو وعويلته). والمواطن الليبي بقدر حاجته الاقتصادية، إلا إنه يؤمن بضرورة أن تقوم البلاد على أسس اقتصادية تضمن مساواة فرص العمل، وأن يكون العطاء بقدر الجهد المبذول والتعب والتحصيل المعرفي (فأنا ما نطلبش ولا بناخد حاجة مش ليا، أنا نطالب بحقي، وحقي المفروض يكون على حسب شهادتي وجهدي، مش أكثر، عاملوني صح واعطيني عرقي، مش تخليني نخدم على تاكسي وتقولي خيرك ما تجيش الخدمة).

وأريد أن أنبه إلى نقطة مهمة –وأزعمها خطيرة- هي فقد المواطن الليبي الثقة في حكومته ممثلة في المؤتمر الوطني و الحكومة المؤقتة، لسببين؛ الأول خبرته السابقة في عهد الطاغية، والثاني التعالي في التعامل مع عقلية المواطن. مما ينعكس سلباً على أداء المواطن في المرحلة القادمة، مرحلة البناء والتعمير. والله من وراء القصد.

________________________________

نشر بصحيفة الكاف الإلكتروية

حــكاية ســـالـم

حكايات 3

لم يكن بالشاب الطموح، أو الحالم، كان الانكسار علامتهُ المسجلة، والخوف من الغد رفيقه الذي لا يمله. من يعرفه كان يؤكد إنه على مسافة خطوة من الانهيار، أو الدخول عالم الهذيان، كما دخله الكثير من مجايليه. لكن لسببٍ ما ظل هذا (البورا) قوياً حتى اغتنم هبة ريح دفعت بها الأقدار مركبه الصغير، وقتها.

كل نصيبه من التعليم، شهادة متوسطة في التبريد والتكييف، لم تستطع أن توفر له مصدر رزق، يساعده على البدء في بناء مستقبله، الذي صار يراه بعيداً، أكثر أكثر في كل يوم. دخل سوق العمل عاملاً في مقهى، قريباً من منطقة سكناه، يعينه على مصارف الأيام. يخرج من منزله صباحاً ليعود إليه مساءاً منهكاً، ليعيد صباحاً الدورة من جديد.

يحكي صديقه، أن كل حلم “سالم” كان محصوراً في بيت، يملكه، يكون عشه الذي يحض أسرته. والده، غفير وأمه ربة بيت، وله من الأخوة ثلاث؛ أخت كبرى تزوجت باكراً، وأخوان يكافحان في الدراسة الجامعية، يصغرانه.

قلت إن هبة ريح ساقت مركبه في اتجاهها. والقصة، إن صاحب المقهى قرر بين عشية وضحاها أن يغير نشاطه إلى محل ملابس نسائية، بحجة (إن القهاوي ولوا أكتر مالعباد، ومحل ملابس نسائية ربحه مضمون وما فيشي صداع هلبة، جيب وحط وارفع). وهكذا وجد “سالم” نفسه يجلس إلى ركابة الشارع، أو يدور ماسحاً صفحة الشوارع بوجهه. حتى أن اصطدم بأحد الأصحاب:

– وين؟

– بطالة… وانت؟

– نخدم في اللجنة الشعبية للـ……..

في اليوم التالي للقاء، كان صاحبنا أمام مبنى اللجنة ذاتها في انتظار صاحبه، الذي أدخله على أحد المدراء:

– هذا مفتاح القهوة، وشوف أمورك.

تحولت الـ3×4 متر إلى شيء آخر، فلم تعد تقدم الشاي والقهوة، بل صارت تقدم وجبات الأفطار والغداء لمن يتأخر من الموظفين، وبعد مضي أشهر، استعمل صاحبنا عاملاً للمساعدة وإيصال الطلبات للمكاتب. أما كيف ابتسم الحظ، فالقصة بسيطة، من سابق خبرته، كون “سالم” علاقة مع أحد مطاحق القهوة، فخصة صاحبها ببنٍّ خاص يقوم بخلطه بيديه، وكبادرة حسن نية منه، خص صاحبنا “سالم” أمين اللجنة بفنجان صباحي من هذا البن. ثم ماذا، تحول “سالم” إلى كرت الوصول المضمون للأمين والحصول على التوقيعات، ثم، رفيقه في خلواته وسهراته، ثم، استعمل عاملاً آخر، وتخصص هو في قهوة الأمين والأمناء الذين أعجبتهم قهوته، وهم كثر، ثم، سيارة، قطعة أرض، مبنى من دورين، وأخيراً تحقق حلم البيت، وتزوج، وزين العش بفرخين. تحول الانكسار إلى انتصار. صار محسوداً من جيرانه لما وصل إليه، ومقصد الجميع لطلب أي واسطة، أياً كانت وكيف؟

من خلال اقترابه اليومي، لمس قلق الجماعة مما يحدث في تونس، والاضطراب الذي أصابهم بانتصار الثورة المصرية، وكرد فعل طبيعي، انتقل إليه الخوف من انتفاضة الشعب:

– أنا شن عليا.. لاني أمين، ولاني غيره..

عاش مسيرة ثورة 17 فبراير على أعصابه، زادت المسافة بينه وبين الأمناء كثيراً، والأصدقاء تبخروا، والجيران تغيرت نظرتهم إليه، فانتقل بعائلته وأسرته إلى بيته الجديد الذي أنتهى من بنائه قبل بداية الأحداث، أدمن الجلوس إلى التلفزيون ومتابعة القنوات الإخبارية، ومحاولة قراءة الغد، كان لا يخرج إلا للضروري، اشترى الغاز والبنزين ولم يناقش، احتمل صوت الطائرات ليلاً، ونيرانها. كان يعرف حجم الفساد الذي تعانيه البلاد من خلال اتصاله بأهل العقد والحل. وكان يقف على الكثير من التجاوزات، وساعد الكثير. كان كل همه بناء بيت وإعمار عُش، وأنه كمواطن له نصيب من الكعكة التي يتقاسمها الكبار، ولو كان فتاتاً.

بعد التحرير وجد “سالم” نفسه ضيفاً على أكثر من مجلس عسكري، يُحقق معه بالساعات، ويطلب منه الإدلاء بما لديه من معلومات عن فلان وعلان. آلاف الرصاصات والهتافات رافقت يوم القبض عليه أول مرة، أصاب الهلع أهل بيته وفرخيه، بكت أمه وتوسل أبوه، لكن لا صوت سمع في جوقة القبض على أحد أعوان النظام.

لم توجه إليه أي تهمه، صفحته بيضاء من الدم والمشاركة في أي عمل ضد ثورة 17 فبراير المجيدة، حمل في يديه أكثر من خمس رسائل تفيد بأنه (أبيض). عندما عاد لبيته بعد مسيرة التحقيقات الطويلة، وجده خالياً، لا شيء فيه، حتى الحمامات رفعت من أماكنها. عاد للمجلس العسكري، أخبرهم بما حدث:

– شوف يا خوي.. كبّر وبس.

حِـــكاية نـــاديـــة

حكايات 2

لأكثر من أسبوع وهي تحبس نفسها إلى سريرها، لا تكلم أحداً.

“نادية” فتاة على أعتاب الثلاثين، لم تدركها بعد، لكنها تفكر كثيراً، في القطار الذي لم يتوقف عند محطتها، التي ظلت تحافظ على نظافتها والعناية بحديقتها، وبقاء رصيفها نقياً للقادم، الذي سينزل عن القطار. كانت فكرة القطار والمحطة تعجبها أكثر من مشهد الفارس والحصان الأبيض، ربما حبها لـ(فيروز) جعلها تقبل هذه الرؤية، خاصة وإنها لا تمل الاستماع لرائعتها (المحطة)، وأملها في مرور القطار يوماً ما، وإن تأخر.

هي أوسط أخواتها، تحصلت على شهادتها الجامعية بتقدير عام جيد جداً، ولم تستطع قبول فرصة الدراسة بالخارج لوقوف العائلة دون ذلك خاصة، وبشكل خاص أخوها الذي يصغرها، والذي يتحكم بكل شيء (شن بندير!!!، راسه مسكر، كيف بنت تقرا بره). ولله الحمد، تحصلت على عمل جيد، في أحد المؤسسات، كانت أصغر العاملين بالقسم، شعلة في النشاط، الأمر الذي أجبر أحد العاملات بالقسم على مصارحتها (شوفي يا غاليه، الجو اللي اديري فيه عارفينا، أركحي خير ما اطيحي وتتكسر رقبتك!!!)، بينما أحد العاملين سرب إليها (شوفي يا أختي، راهو مدير القسم مش عاجبه الجو اللي اديري فيه، ومش مالساهل تاخدي مكانه!!!). تقدمت بطلب للانتقال لقسم آخر، لكن نشاطها كان سبقها وحذرهم، حاولت الانتقال لمؤسسة أخرى، ولم تتمكن. حبست نفسها إلى مكتبها، ومع الأيام تعلمت الامبالاة، لا تفعل أكثر من تتطلبه ضرورات العمل. في أحدى اللقاءات همست في أذنها صديقة (خيرك ما تسجلي في الأكاديمية). رغم المعارضة الأسرية، إلا إنها بالإلحاح تمكنت من إقناعهم (أنا بحداكم ومش بعيدة عليكم)، ولم يتأخر مديرها في التوقيع على موافقة الدراسة كما تطلبه مسوغات القبول للدراسات العليا. كانت تحتاج شيئاً ينتشلها من حالة الموت التي تعيشها في كل يوم. خمس سنوات مرت على تجربتها العملية، فقررت أن تستثمر فرصة الدراسة لمحاولة تطوير أداء المؤسسة، همست بذلك لزميلتها، فعلقت مباشرة (مايفيد في البايد ترقيع!!!).

مرت السنة الأولى على خير، مع بداية السنة الدراسية الثانية، انطلقت ثورة 17 فبراير، فارتبكت، قبل أن تتوقف الدراسة، أو هي من أوقفها حذراً وخوفاً.

كانت الثورة بالنسبة لـ”نادية” لا تتعدى ما تعلمته في المدرسة، من خلال مادة (الوعي الجماهيري)، أو من خلال ما التقطته أذناها وعيناها عبر ما تبثه القنوات المحلية. لم تهتم يوماً بالسياسة ولا الاقتصاد، تربيتها الصارمة دجنتها، لتهتم بما يتماس معها لا أكثر (خليك في نفسك!!!). ما حدث أربك عقلها الصغير المجهز للتعامل مع العلوم، لا الأحداث للتفاعل معها. بالنسبة للعائلة كانت بالكامل مع النظام، مؤيدة بشكل تام، تطوع أخوها ضمن من تطوع في (الحرس الشعبي) رجع للبيت حاملاً (كلاشنكوف) وسيارة. لم تكن لتخرج عن القطيع، لتكون القصية فينهشها الذئب. فرددت ما كان يردد البيت. خرجت في المظاهرات المؤيدة تحت ضغط الأسرة، التقطتها بعض الأعين على شاشة التلفزيون. في الإدارة كانت تعيد القصص التي رواها أخاها بعد عودته من (مصراتة)، عن الجماعات المسلحة، كيف تقطع أثداء النساء، وتقتلع القلوب، وكيف نزل الأجنبي على شواطئ ليبيا، والحرب الصليبية الجديدة على ليبيا الإسلام بقيادة (الناتو).

حل رمضان، وسهريات العائلة تحولت إلى الثلاثي (شاكير، حمزة، هالة)، حتى ليلة 20 رمضان، عندما علتِ التكبيرات من كل مكان، وفرّ الطاغية كجرذ إلى حفرة أخرى. لحظتها تكسر شيء، سيء لا يمكن وصفه أو تحديده، شيء أعلن عن نفسه، كأنه الصبح، كأنه الحق (كنا على ضلال يا هند).

لأكثر من أسبوع وهي تحبس نفسها إلى سريرها، لا تكلم أحداً. صامتة، جامدة العينين. لا أحد في الإدارة يتقبلها، حتى زميلتها الأثيرة حسمت الأمر (يا طحالب، عيشوا معنانا والله غالب). زميلٌ آخر وضع صورتها تلك على الفيس. كانت تسأل نفسها، لماذا هي (الموالية والطحلوبة)؟ وليس مدير الدائرة الذي طبل وزمر وحشدهم للخروج في المسيرات؟؟؟. هل ذاتها الحسابات مازالت؟، أم أنها لا تجيد التحول والتلون، لتتسلق بسرعة رافعة أصابعها بعلامة النصر (دم الشهداء ما يمشيش هباء).

هنا، انقطع أخبار “نادية”، ولم يعد من وسيلة للاتصال، سمعت إنها حاولت الانتحار، بعد انقطاعها عن الأكل والشرب.. هل نخسرها؟، سؤال يفتح بابه أمامي عن كثير مثل “نادية”، كل ذنبهم غفلتهم وجهلهم.