ليبيون

حكايات ليبية

تستدعي ذاكرتي في هذه الأيام، وبشكلٍ كبير، ذكرياتي طفولتي الأولى ومرابع صباي بمنطقة (تقسيم التواتي) بـ(حي المنشية – شارع بن عاشور)، وبشكل خاص العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط سكان الحي. والذين شاء القدر أن يكونوا خليطاً محلياً وعربياً وأجنبياً، تعايش في سلام، ورسم مشاهد لازلت في ذاكرتي، ولن تغيب.

الحي كان مستطيل الشكل، في مستويين؛ المستوى الأول اصطفت فيه البيوت على المحيط الخارجي لهذا المستطيل، أما الثاني فتراصت في على جهتين في مستطيلٍ داخلي. حتى الثمانينيات، كانت الشوارع ترابية، وكنت نستمتع بغدران المطر، وحفر بوكات البتش، وفن الزرابيط، قبل أن تدخل الشركة التركية، وترصف الشارع بالأسفلت، وتحفهُ برصيف، اخترعنا على أساسه لعبة جديدة تستخدم فيها الكرة، أسميناها (الحاشية). كان هذا المستطيل يطل في واجهته الشمالية على الطريق العام، وتحفه شرقاً وجنوباً السواني (الكرداسي، بن سعيدان، الكانوني، القصبي،…) أما غرباً مربعٌ سكني آخر.

في ليالي الصيف، كان الطريق العام يتحول لساحة لعب، كونه البقعة المضيئة. أما السواني، فكانت ملعبنا في اصطياد العصافير بنصب (الطربيقة) أو (الكولّا) أو استخدام (الفليتشا)، والتسلق أشجار التوت. كانت أي مساحة مربعة تتحول إلى ملعبٍ لكرة القدم.

تشارك هذا الحي مجموعة من العائلات الليبية، والعربية، ولأني تحدث عن العائلات العربية في حديثٍ سابق، أركز هنا في حديثي عن العائلات الليبية، التي عشتُ جنبات بيوتاتها، وأكلت خبزها وتذوقت ملحها.

كان بيتنا في الركن الشرقي من المستطيل الخارجي للحي. وأقرب الجيران لنا، كانت عائلة (جبالية)، وهي أول ما أتذكر من العائلات، وكانت مكونة من زوج وزوجة، لا أتذكر الكثير  عنهم، كونهم غادروا الحي مبكراً، لتحل محلها عائلة من ذات الجبل، كانت ذات إيقاع حياتي خاص لكثرة زوارهم من الجبل، ولتواصلهم الرائع مع كل الجيران، حتى اللحظة بعد مغادرتهم الحي.

أربعُ عائلات من (مصراتة) عن يميننا وشمالنا، تميزت أعراسهم بـ(الزكرة) و(التمر)، أما العيد الصغير (عيد الفطر) فكان لا يتم إلا بالفطيرة المصراتية.

على ذات الخط، كانت تسكن عائلة من فزان، لا أستطيع أن أصف مقدار طيبة هذه العائلة، التي كانت توزع التمر في مواسمه على الجيران. ولشد ما لا تمل حديث جارنا مستمتعاً بلهجة أهل الجنوب المميزة.

في المقابل سكنت أحد عائلات الساحل، الزاوية الغربية؛ كانت رائحة الكسكسي الذي تصنعه جارتنا يعبق في الحي، واليقين أن (الذوقة) هذه المرة نصيب أحد البيوت. على ذات المسار عائلة من تاجوراء، ثم زليطن، غريان. أضافة للعائلات الطرابلسية، أو العائلات التي سكنت طرابلس من القديم، والتي تميز بصنع الحلويات الطرابلسية كــ(الكعك المالح)، و(المقروض)، أما (البكلاوة) فمذاقها لا يغادر فمي حتى اليوم.

وكما كان لكل بيت بصمته الخاصة، كل لكل بيت ما يتقاسمه وجيرانه، في اليومي والمناسبات حلوها ومرها. مع السنوات كانت بعض العائلات تغادر، لتحل مكانها أخرى، فسيفساء متواشجة في لبنات لجسدٍ واحد اسمه ليبيا. في المراحل المبكرة من عمري، كان الكل سواء، كلنا ليبيون، وإن اختلفت ألواننا أو لهجاتنا، الانتماءات كانت تظهر بشكل واضح في الأعياد، عندما يفرغ الشارع فجأة من أغلب قاطنيه –وكنا منهم-، متجهي إلى بلدتنا للمعايدة وقضاء يوماً أو يومين مع الأقارب.

كنا نعيش كأنا أسرة واحدة، نمارس حياتنا بشكل متناغم، لا معنى فيها للقبيلة أو الانتماء لمدينة ما، أو جهة ما. نرقص على إيقاع الزكرة المصراتية بذات الحماس على إيقاع تدريجة العريس، وبذات الحب نواسي بعضنا في المصائب والملمات. كانت كل البيوت مشرعة، وكأن كل منها غرفة في بيت.

عندما مرض أبي –وأنا لازلت صغيراً-  ذات ليلة، قصدت بيت جارنا، الذي هرع لنجدتنا، وحمله إلى المستشفى، وقالي: وللي للحوش. ليعود صباحاً، بحضور زوجته وهمي تطمئننا عن صحة الوالد، وأن ما مر به عارض. هو ذات الموقف الذي لجأت فيه جارتنا لبيتنا، في 15-4-1986 عندما قُصفت طرابلس، ليحول جارنا (ريفوتجو) إلى ملجأ لعائلات الحي، خلال فترة الطوارئ. وهو نفسه كان يهب صالته لإقامة الأفراح والأتراح.

لم أشعر يوماً بالوحدة في هذا الحي، فغير لعب كرة القدم، مارست هواياتي بكل حب أمام الأصدقاء والجيران، فكل الجيران كانوا يسألون عن رسوماتي، وتخطيطاتي، كما يتابعون تجاربي، حتى سميت بـ(عبقرينوا). كان ثمة من يشاركني شغفي بالكتب وقراءة الألغاز البوليسية، أو الغناء والعزف الذي برغم المحاولات فشلت فيه بامتياز.

لازال الحي كما هو، وإن تغير بعض الشيء، محافظاً على نسيجة الملون الرائع، برغم الحوادث.

حفظ الله ليبيا.

الحافظ ربي

حكايات ليبية

في يومٍ ما من عام 2010، في مكانٍ ما من مدينتي طرابلس، كان هذا الحوار على هامش دعوة لافتتاح مكانٍ يفترضُ أن يكون مقراً دراسياً وتدريبياً، وبعيداً عن البقية انتحيت بصاحب الدعوة وهو المسؤول:
– معليش بنسألك؟
= تفضل يا عزيزي
– توه بيني وبينك، مقتنع بالمركز اللي صرفت عليه هاديك الحسبة؟
= كيف مقتنع!!!، يعني؟
– تعرفني صريح، ومش حنجاملك…
= شن فيه، قول!!!
– يعني شوف المبنى مش مصمم ليكون مركز تدريبي، لأنه في الأصل فيلا سكنية وحضرتك جيت وأجرتها وهندستها، باش تلايمها.
= وباه
– لكنها مالايمتش!!!
= يا راجل؟؟؟
– يعني خلي نعطيك ملاحظتين بسيطات، لكنهم مهمات.
= هات الأوله
– مخارج الطوارئ، وينها؟، وإنت تعرف أهميتها..
= والتانية
– وخيرك فت الأوله؟
= لأني ماللخير!!! ما عنديش ليها كيف!!!
– أما التانية، فهي منظومة مكافحة الحرائق، أو اكتشاف الدخان. مش موجودة ولا مش دايرها في حسابك؟؟؟.
= هاهاها، لا هادي فاتاتك يا بطل!!! ركز وإنت تشوف طفايات الحريق في كل دور وفي كل فصل!!!
– لا يا باشا، شفت الطفايات، لكن مشم معنى إنك معلق طفايات إنك قضيت على الحرائق!!!
كيف؟
– يعني بفرض إنه شب حريق، من حيستخدم الطفايات؟، بالك تقولي المتدربين!! لأنهم أكيد حيكونوا أول الخارجين من المركز، لسلامتهم، مع إنه مافيش مخرج طوارئ. يعني المفروض اللي قوم بعملية الإطفاء الموظفين بتاعين المركز!!! وهكي لازم يكونوا متدربين على استخدام طفايات الحريق، وتمييز الحريق، وقبلها يكونوا مدربين على التصرف في حالات زي هادي.
= شوف يا زعيم، لو كاتبلها بنتحرق، لا منظومة و غير منظومة بيشد قضا ربي. خاليها سايره والحافظ ربي.

*** * ***

تذكرت هذه القصة، وأنا أخوض والزملاء في الحديث حول حريق سوق الثلاثاء. وبالمناسبة المركز بطريقة ما يتلقى دعماً حكومياً.

*

حفظ الله ليبيا
______________________________________
بدأ حريق (سوق الثلاثاء) ظهيرة الأمس 19-01-2014، وبعد إعلان القضاء على الحريق، عاد مرة أخرى في الليل متأخراً، واستمر حتى صباح اليوم. معظم الأقوال ترجع الحريق لسببين: الأول؛ التماس كهربائي بالمخبز الكائن بالدور الأرضي، والثاني؛ حريق ناتج عن محاولة لحرق أكوام القمامة خارج سور السوق.

سامر يحكم

حكايات ليبية

سامر شاب في بداية العقد الثاني من عمره، مفعمٌ بالحيوية والنشاط، يسكن وعائلته مدينة طرابلس، وتحديداً وسط المدينة، يعني (ولد بلاد). وبالرغم من حداثة سنه، إلا أن أكثر ما يعجبني فيه هدوءه وسعة صدره، مقارنة بحدة وتسرع أقرانه.

عندما تعرفت إليه، كان حديث عهدٍ بالعمل، وكان لا يكف عن السؤال، محاولة لفهم ما حوله، وتدعيم ثقته بنفسه، ثم تجد ابتسامتهُ المميزة تقول لك: شكراً على مساعدتك.

قبل أيام، اضطرتنا ظروف العمل للقدوم مبكراً، فكان من ضمن المجموعة المختارة، وكالعادة سألته:

  • أمتى راقد؟
  • والله شن بنقولك.. الساعة 3!!!

وقبل أن أعلق، ابتسم ودخل في نوبة ضحك، لم أفهم كنهها حتى هدأ.

  • خيرك شن في؟
  • والله مش عارف شن بنقول ولا نحكي!!!؟؟؟
  • قول، ولا احكي.. المهم نبي نعرف.. مش تقصقيص!!! بص اللي يشوفك وانتا تضحك يقول يا مسطول يا زارط!!!
  • عارف وانا نراجي اليوم، صارتلي حاجة مش طبيعي.
  • شنو؟؟؟
  • عفل تبتاع 10 دقايق ربع ساعة.
  • ووين اللي مش طبيعي!!!؟؟؟
  • هادوكا العشر دقايق حلمت فيهم.
  • مسرع، يعني وصلت للحلم في هالدقايق.
  • وهو مش حلم
  • ؟؟؟؟؟؟!!!!!
  • تعرف لتوه حاير في روحي، وفي نفسي.

وعاد للضحك.

  • تي شن في.. شن حلمت.
  • تعرف يا خوي، حاجة غريبة.
  • ؟؟؟؟!!!!!
  • حلمت إني وليت راس البلاد، ومافيش حد يقدر يقول معاي كلمة.
  • باهي
  • وعندي قوة مش عادية، جيش وشرطة، ومخابرات، وأمن داخلي وخارجي، وصاعقة.. ووزراء، والبلاد منظمة، وماشية عالساعة.
  • والله كويس، يعني نتفائلوا بالخير.
  • وين الخير.. ما هو القصة فيا أني.
  • كيف؟؟؟
  • تعرف اكتشف بعد ما نضت قداش فيا من شر، لين استغربت من روحي.
  • ؟؟؟؟!!!!
  • نعطيك مثال بسيط، وهذا أبسط حاجة ممكن نحكيهالك. تعرف ألغيت العطلات كلها، تعرف حتى الجمعة الغيتها وخليت العام 12 شهر خدمة ودراسة.
  • وشن تاني؟.

ودخل في نوبة ضحك (هادا أبسط شي درته)، وقرر ألا يكمل.

حكايات الأزمة – 2 (الكـهرباء)

حكايات ليبية

1

نعم، الكهرباء حياتنا، إيدينا ورجلينا، وحتى دماغنا.

الكهرباء الأزمة الكبرى التي يعيشها المواطن الليبي منذ أكثر من شهرين، تتفاقم في كل يوم، فبعد الساعتين، صار انقطاع الكهرباء يستمر لأكثر من 12 ساعة، وإلى اليوم واليومين، وأكثر.

أذكر قديماً، أن مشكلة انقطاع الكهرباء كانت تظهر بشكل كبير في فصل الشتاء، حيث يحدث كثيراً أن يسقط أحد خطوط الكهرباء المعلقة، فتنقطع الكهرباء عن الحي، أو أن تتسلل المياه لأحد الغرف، فنسمع صوت شقشقة يتبعها انقطاع للتيار الكهربائي، وكالعادة، إما اتصلنا أو يكون أحد الجيران سبقنا للاتصال بوحدة الصيانة السريعة للكهرباء لإصلاح العطب. وللأمانة، كان المعتاد أن يستجيب فنيو الصيانة.

وما زلت أذكر أطوف فترة قضيناها بدون كهرباء، وكانت في الثمانينيات.

كان الحي هادئاً، بعد أن سكن الجميع بيوتهم، هرباً من العاصفة التي كانت قوية بالخارج، وعند صلاة العشاء سمعنا صوت انفجار قوي، انقطعت على أثره الكهرباء، تبعه صوت يشبه الرشاش، خرج الجميع لنكتشف أن صندوق الكهرباء الموجود في أحد المزارع محترف ومتفحم، واكتشف جارنا صاحب المزرعة، إنه نتيجة لهذا الحادث قد فقد العديد من الدجاجات.

ولحوالي ثلاثة أيام كاملة، كنا فيها بلا كهرباء، وكانت فنيو الكهرباء يعملون بجد وكد، حتى تكون في مثلث الحي مكعب حديدي، حالما انتهى عادت الكهرباء إلى الحي.

وفي التسعينات عندما بدأ مشروع الكوابل الكهربائية، تم بناء غرفة خاصة لهذا المكعب المعدني والتي لازالت حتى اللحظة.

الانقطاع الكبير الذي عرفته طرابلس حسبما اذكر حدث في العام 2000 وتقريباً في شهر يونيو، حيث اقطع التيار الكهربائي لليلة تامة شمل طرابلس وضواحيها على ما أذكر، ولحظتها انتشرت الكثير من الشائعات كالعادة، ولكن تصادف أنه في تلك الليلة عرض أحد حلقات برنامج (قناديل في الظلام) للشاعر “محي الدين اللاذقاني” وكانت عن ليبيا، على قناة (ANN)، ومن ضيوف الحلقة السيد “محمد الرضا السنوسي”، والسيد “عاشور الشامس”. ولقد أثارت هذه الحلقة الكثير من القضايا حول نظام القذافي، وكانت شغل الشارع الليبي لفترة، فالليبيون كانوا حديثي عهد بالفضائيات، وكانت تبحث عن مواضيع مثيرة، فلم تجد بعضها أفضل من ليبيا المسكوت عنها.

يخطر على بالي الآن، قصة التحول من نظام الـ110 فولت إلى الـ220 فولت، وكيف سبقته ضجة، وحملات وتوعيات، بضرورة أخذ الحيطة من ضرورة تحويل الآلات الكهربائية إلى النظام الجديد، فاشترى والدي محولين لهذا الغرض، وبعد فترة لم يعد لهذين المحولين من حاجة، حتى قمت باستخراج احدهما واستعماله لسخان ماء قديم بالبيت.

الكهرباء_محمد قجوم

من أعمال الفنان محمد قجوم

2

كما أسلفت، نعيش في ليبيا هذه الأيام أزمة كهرباء كبيرة وعويصة، وماليهاش حل. انقطاع بدأ بساعتين وتطور إلى أيام. ولأن مشكلة الكهرباء بدأت مع أحداث ثورة 17 فبراير ورافقتها حتى اليوم، فإن خبرة ثلاث سنوات مع هذه المشكلة أعطت الليبيين الكثير من الأفكار للتغلب عن هذه المشكلة، إذ استخدام الشمع لم يعد مجدٍ وفعال. وموازاة، صار الليبيون على دراية بالكثير من المصطلحات الفنية الكهربائية، خاصة مسألة مصطلح (الطرح اليدوي)، التي تفضل جارنا بشرحها وتفسيرها لي. وأيضاً أسماء المحطات وأنواعها الفرق بين المحطة البخارية والغازية.

أولى الحلول، وأوفرها، كانت المصابيح القابلة للشحن، وكانت جيدة وفعالة خاصة وإن الكهرباء كانت لا تنقطع لفترات طويلة، لكن السحب عليها، جعل سعرها يقفز أضافاً مضاعفة، خاصة في عدم وجودها بشكل كبير. وكالعادة، بعد الشح توفرت هذه المصابيح بأشكال وأحجام مختلفة، وصارت متوفرة للدرجة التي تجد أشخاص يتخذون من الدوّارات والساحات وجوانب الطرق أماكن لبيع هذه السلعة.

الحل الثاني، كان من خلال اقتناء مولد لتغطية فترة انقطاع الكهرباء، بعد أن صار الانقطاع مستمراً وطويلاً، ومخافة فساد ما تحتويه الثلاجات والمجمدات.

العلاقة مع المولدات بدأت بالحاجة لتشغيل مصباح أو مجموعة مصابيح، ثم بدأت الحاجة تتعدى مجردالنور، الأمر الذي جعل من الموان الليبي، يعيد دروس الفيزياء لحساب مقدار الطاقة المستهلكة في بيته، لشراء المولد المناسب، لتشغيل أنوار البيت والتلفزيون والأقمار الاصطناعية، ومكيف والثلاجة. مع الخبرة صار بإمكان هذا المواطن إدارة الأمر بذكاء لاستغلال كل الطاقة التي يمكن للمولد إخراجها. وعلى ذات الجانب صار خبيراً في أمور المولدات، ويتبرع بإعطاء النصائح لمن يرغب؛

  • مولد البنزينة رخيص، لكن النافطة أحسن ويمشي أكتر.
  • تبي مولد، ما تشريش أقل من 6 كيلو واط.
  • فكك مالصيني، أدفع فلوس في حاجة باهية تقعد وتستفيد ومعاش تصين طول الوقت.

الحل الثالث، استخدام العاكس أو الانفيرتر، وهو يشبع المولد في عمله، لكنه يحتاج إلى بطارية أو مصدر تيار ثبات ليحوله إلى تيار متردد 220 فولت، وبطاقة استهلاك تختلف بحسب الحاجة، وهذا احتاج إلى تعمق أكثر في دروس الفيزياء، كون الأمر يختلف قليلاً في مبدأ العمل.

وبالرغم من نظافة هذا الحل، وعدم الحاجة للبحث عن وقود لتشغيله في ظل أزمة الوقود التي تعيشها البلاد، إلا أن المشكلة الأساسية كانت في طريقة شحن البطارية التي سيعمل عليها الأنفيرتر، فكان البعض يقوم بتوصيله ببطارية السيارة، وبعد مرور وقت معين، يحسب بالخبرة، يعمد لتشغيل السيارة لشحن البطارية. أو شراء جهاز شحن لشحن البطارية، لكن المشكلة كما أثيرت على الفيس تتوقف على سعة البطارية وزمن الشحن اللازم، والذي قد لا يسعفك به التيار الكهربائي.

أحد الأصدقاء أخبرني عن مشروعه المقبل، والذي سيبدأ به حالما تهدأ الأمور في البلاد، والمتمثل في تركيبه لمجموعة ألواح شمسية للتزود بالطاقة الكهربائية، وإجراء دراسة عن إمكانية الاستفادة من هذا التطبيق في مدن الشمال الليبي.

صديق آخر ، طلب مساعدتي في تصميم مروحة (أو عنفة) للاستفادة من طاقة الرياح، فقدمت له بعض التوجيهات والمراجع.

لكني حقيقة في انتظار مشروع الطاقة الشمسية، لاعتقادي بأنه أقدر على دعم شبكة الكهرباء المحلية في ليبيا، ورفع بعض الحمل عنها.

الكهرباء_محمود العمراني

من أعمال الفنان محمود العمراني

3

الكهرباء حياة.

نعم، فلقد أثر الانقطاع اليومي والطويل والمستمر للكهرباء على طبيعة الحياة ونمطها، ففي طرابلس على سبيل المثال، الكثير من المحال كانت تعمل نهاراً وتقفل أبوابها بحلوب الغروب.

محال بيع المواد الغذائية، اعتمدت بشكل كبير على المولدات، ولأن تزويد محل يحتوي على 8 ثلاجات ومكيفان وإضاءة، يحتاج مولداً بمواصفات معينة، كما هو حال المحل القريب من البيت، فإن صاحبه، يعمد إلى تشغيل مكيفٍ واحد، ونصف عدد الثلاجات ونصف مصابيح الإضاءة. أما المقهى القريب من البيت، فقد أغلق أبوابه، جاره بعد شهر من الإغلاق عمد إلى شراء مولد:

  • وقف حالنا يا خوي!!!

أغلب المصالح والجهات والشركات عمدت إلى تركيب مولدات، لتسيير أعمالها والنظر في مصالح المراجعين، والشركة حيث أعمل، اتخذت ذات الإجراء، الطريف إن بعض الموظفين كانوا بعد توقيعهم للانصراف يعودون إلى مكاتبهم:

  • شنو، ماكمش مروحين!!!
  • لا لا لا.. الحوش مافيه ضي، خلليني في المكيف خير!!!؟؟؟

أما الإشكال الأكبر في رأيي، الإشارات الضوئية، فمع عدم احترام أغلبية السائقين للإشارة الضوئية، زاد انقطاع الكهرباء الوضع سوءً. فتنطلق السيارات بدون مراعاة، أو تتعانق وتتعاشق في التقاطعات، ولا حول ولا قوة لرجل المرور الذي يحاول، ولا الشباب الذين يجتهدون.

وعلى هامش ازدهار  تجارة المولدات، نشأت مصلحة تصليح المولدات، وتركيبها، واختراع حلول (موديفيكات) للمشاكل التي تحدث، كمسألة المحول (القلاب) التي وجد لها البعض حلاً، أو صغر حجم الخزان، أو طريقة التوصيل، والتغلب على الضجيج، إذ أطلعني أحدهم على طريقة قاموا بها كأخوة للتغلب على ضجيج المولد الذي يزود البيوت الأربع، بحيث تم وضع المولد في غرفة تحت الأرض، مزودة بفتحتي دخول وتهوية.

هناك أيضاً من يقوم بسرقة خطوط تمديد من مولدات الجهات، خاصة البيوت القريبة والتي تشترك في الحدود معها. وبمناسبة الحديث عن السرقات، لابد من ذكر ما تعرضت له بعض المحطات والمخازن التابعة لوزارة الكهرباء من سرقات واقتحام، أو سرقة كوابل خطوط الكهرباء من أجل الحصول على النحاس.

في هذه اللحظة التي أنهي فيها كتابة هذه التدوينة، أثني على جهود رجال الكهرباء الذين يبذلون ما أمكنهم لحل الكثير من المعضلات والمشاكل، وحيث خفت كثيراً فترات انقطاع الكهرباء، فشكراً لهم.

حكايات الأزمة – 1 (الزحمة والطابور)

حكايات ليبية

الأزمات والحوادث، تغير البعض/الكثير من عادات المجتمع وأنماطه الحياتية. فالظرف الذي تخلق الأزمة يجبر المجتمع على إيجاد وسيلة للتعامل معها، أو طريق لحلها أو للتغلب عليها، ويكون هذا التغير على مستويين؛ مستوى عام: شعبي، مجتمعي يكون في شكل تصرف أو سلوك عام. ومستوى خاص: يخص الفرد في ذاته أو من تضعف دفاعاته، أو من تعينه على التغلب عليها بطرقه الخاصة.

وللأزمة بعدين؛ أول يعود سلباً على المجتمع، فقد يفككه، ويضر بعلاقاته الاجتماعية، وثاني إيجابي، قد يزيد من ترابطه وتعاونه، لتجاوز المحنة.

الزحمة والطابور

أذكر إني عرفت الزحام والطوابير، بشكلٍ مبكر، فمنذ الثمانينات كان كل شيء بالطابور، فوقفت في طوابير الخبز (عالكوشة) في راس حسن، وفشلوم، وسوق بن عاشور. وطوابير الأسواق المجمعة، والجمعيات، والمنشآت، خاصة منشأة الألبان التي كان أحد مراكز توزيعها في نهاية الشارع حيث نسكن. أما أجمل الطوابير والتي لم أتأفف مرة في الوقوف فيها طابور منشأة الألعاب، فكان علي الوقوف في الطابور لشراء بدلة رياضية (توته)، أو لشراء مضرب كرة تنس، أو لشراء سيارة تتحرك بجهاز تحكم، أو محاولة الحصول على طائرة.

وأعتقد إن وصلنا لدرجة من النظام، أنه يتم كتابة قائمة بأسماء الموجودين بالطابور بترتيب الأسبقية، في بعض الحالات، كما حدث معي مثلاً في لجنة الكشف بغرور، حيث عند الخامسة صباحاً وجدت أمامي حشداً، سحبني منه صوت أحدهم:

  • سجل اسمك هني!!!

ومد لي قطعة كرتون، تعود لصندوق، رأيت بقيته يستعملها صاحب الصوت فرشاً للجلوس على الرصيف.

أكثر الطوابير كانت على الأسواق المجمعة، فبعد بدايتها المبشرة، والتي كانت فيها المواد موزعة ومصطفة في أقسام وعلى الرفوف، خلت فجأة، وتحول إلى مجرد باب يفتح عند التاسعة صباحاً، يتداعك (يتزاحم) عنده الليبيون في محاولة للحصول على حصتهم من الشكاير (الأكياس)، وأنت ونصيبك، فأنت تقف منذ الصباح، محتملاً الزحام والتدافع والروائح من أجل كيس مجهول المحتوى، على سؤال:

  • زعمة شن بيوزعوا اليوم؟؟؟!!!

ومن المعتاد، أن يتحول الطابور إلى دعاك (زحمة) في أقل مما يمكن للعقل استيعابه لحظتها، فيكفي اختراقٌ مّا أو رغبة جامحة من أحدهم، ليتكدس الطابور عند الشباك أو الباب، وهذا ما كان يحدث في طابور المقصف بالثانوية، أو عندما تريد قضاء مصلحة ما في جهة ما.

عن الشبكة

عن الشبكة

ويطرق باب ذاكرتي اللحظة، طابور (بار حفرة) بشارع (بن عاشور) مقابل جامع (سيدي عبدالغني)، حيث تنزل الدرجات الخمس وتنتظر دورك للوصول للباب الضيق، حيث تشاهد بوضوح ليان التن (حوض)، الذي اختلط فيه التن بالطماطم بالهريسة، والخبز المشقوق المرصوص على الرخامة. وكيف تتحرك يدي عمي “الدهماني” بسرعة ورشاقة. تأخذ فردتك (شطيرتك) وتنطلق صاعداً الدرجات، لتتكئ على القرقطون (الحاجز الحديدي) متلذذاً بمذاق أشهى نص تن (شطيرة تن) في طرابلس.

كما خطر اللحظة، وقوفي في طابور طويل بمنطقة (ميزران) بوسط المدينة رفقة الوالد، للحصول من أحد المعامل على قلوني رمان، وقلوني روزاطة، وأظنه كان في رمضان.

في هذه الأيام، ومنذ أحداث ووقائع 17 فبراير، عرفنا في طوابير البنزينة. طرابلس بشكل خاص عاشت ومازالت تعيش أزمة أسمها البنزين، حيث تصطف السيارات عند الشيلات (محطات الوقود)، واحدة وراء الأخرى، ساكنة وادعة، وحيدة، فأصحابها في العادة يجتمعون في جروبات (مجموعات)، للهدرزة (الحديث) والتقصقيص (السؤال). ولأن وقت الانتظار غير مقدر، يطولا ولا يقصر، فإن المكياطا (القهوة المضغوطة) لا تجدي ولا تغني من عوز البطن، فيتحول كوفِنو (الصندوق الخلفي) لأحد السيارات، إلى مطبخ لطهي صنجرة مكرونة مبكبكة، أو عمل شرمولة.

إبان فترة الأحداث، كانت طوابير البنزينة تستمر لأسبوع، وكان التنسيق أن يغادر البعض على أن يترك السيارات في عهدة من يتطوع بالبقاء، على أن يتم التناوب فيما بينهم، أو أن يتم التناوب على السيارة بين أخوين أو صديقين.

في هذه الأيام، الأمور تحسنت، ففترة الانتظار أقلها ساعتين، وأكثرها ست ساعات، وتختلف من موقع لآخر. وبمدى قوة السيطرة على محطة التزود.

على ذات المستوى، تأتي طوابير المصارف، فعن نفسي، حتى تاريخ كتابتي لهذه الأسطر، لم أقم بالسحب من الأول من أغسطس، فعادتي أن أسحب المرتب بعد يوم 20 حيث تكون المصارف أقل ازدحاماً، لكن الأحداث الأخيرة جعلت من المصارف حالة لا يمكن وصفها، ففي المصرف الذي أتبعه، الطابور يمتد خارج المصرف لأكثر من 20 متر، ومن المتوقع أنه بعد انتظار الساعات أن تفاجأ بأن المنظومة توقفت، أو أنه لا سيولة، أو أن يحدث شجار قد يدفع إدارة المصرف إلى إقفال الأبواب.

الشيء الجميل في حكاية الطابور الليبية، أنه ثمة طابور تريس (رجال) وطابور نساوين (نساء)، ولم أشاهد أي حالة من حالات التعدي على هذه الخصوصية الجنسية طيلة حياتي الطابورية. الأمر الآخر، هو احترام كبار السن والمرضى والمعوقين، بمنحهم الأسبقية في قضاء حوائجهم.

ولأنها ليبيا، ولأنه شعب ليبي، ستجدني أفتح حواراً مع جيراني في الطابور، لعلمي أنه حالما بدأنا، لن تكون هناك كلفة، وسينساب الحديث دون حدود أو سقف. وستفرش كل الأوراق.