أول رمضان

عن الشبكة.

عندما بدأتُ الصيام كان صيف النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، حاراً على غير العادة، ولم يكن مكيف الهواء منتشراً كما هو الآن، فكان الطريقة المتبعة لتلطيف درجة حرارة البيت، تنكيس الأبواب والنوافذ، واستخدام المراوح الكهربائية. وكنت طلباً للبرودة، أتمدد على البلاط.

كانت الحركة تموت في الشوارع مع ارتفاع الشمس، في الضحى، خاصة وإن العطلة الصيفية في بدايتها، وما إن تنزل الشمس عن سمتها، ويؤذن للعصر، حتى نخرج من جحورنا للشارع، الذي يضج بأصواتنا وبأجسادنا التي نكتشف قدرتها على اللعب بكفاءة.

كان رمضان بسيط، وأهم ما فيه الشربة والبوريك والمبطن.

كانت فترة العشية نشطة، ومليئة بالأنشطة، خاصة عندما أذهب بصحبة والدي إلى سوق الخضرة، الذي يعج بالزبائن، وإضافة إلى باعة الخضر والفواكه، هناك باعة البوريك (ورقة بورية.. ورقة طازة)، وفي غالبيتهم أطفال في مثل عمري وأصغر قليلاً، ما أن تطلب من أحدهم (البوريك) حتى يرفع غطاء (جردل الديكسان) ليمد يده ويخرج بلفافة (البوريك) ويستلم منك (الربع دينار).

من الباعة المميزين في سوق الخضر، باعة الحلوى، الطروني والشاكار. التي أستشعر مذاقها في فمي حتى اللحظة.

كان الدلاع فاكهة الصيف التي لا ينافسها أي صنفٍ آخر، وكان أبي ينتقيها بمهارة، فلم يسجل عليه يوماً أن أخفق في اختيار دلاعة، عكسي تماماً، فحتى أصل لمهارته كان علي المرور من خلال مجموعة من الدلاعات البيضاء.

باعة التمر، كان لهم ركنهم الخاص في السوق، ومع هذا كان أبي لا يشتري منهم التمر، بل يعتمد على توصية الأصدقاء لجلب التمور، من خارج طرابلس.

عندما نصل البيت، أترك أبي يدخل وحده، لألتحق بركب الصحاب، الذي يكون سبقني بأشواط في لعبة (بنك الحظ).

قبيل الغروب بدقائق، كان بعضنا يمارس شقاوته بأن يرفع الآذان، بينما في الغالب كنا نتفرق ونحن نطلق صيحاتنا (فطور.. فطور).

وما إن أصل البيت، وأتجهز للإفطار، لأجد صفاً من الصحون على رخامة المطبخ:

– هي جري، أرفع الصونية هادي لخالتك (……..)، والصونية هادي لخالتك (…….)، وهادي لخالتك (……….)، وتعال جري.

أصل البيت لأجدهم اجتمعوا أمام التلفزيون الملون (جي في سي)، والذي في هذا الوقت يبث مجموعة من الابتهالات، وكان أجملها وأحبها على قلبي:

رمضان يا شهر الصيام

رمضان يا شهر القيام

طوبى لمن فيم استقام

حاز المنى، طال المرام.

وعندما تأتي صورة السرايا الحمراء، نعرف إن موعد إطلاق المدفع تفصلنا عنه لحظات.

ينطلق مدفع الإفطار، يصاحبه صوت المذيع: (انطلق الآن مدفع الإفطار معلناً عن نهاية يوم من أيام شهر رمضان المبارك). ليرتفع صوت الحق بصوت القارئ “الأمين قنيوة” رحمه الله.

كنت، أحل صيامي على الماء، قبل تناول التمرات الثلاث، وشرب كوب اللبن.

بعد فنجان القهوة، أصحب أبي إلى جامع (وسعاية ابديري) لصلاة التراويح، والتي يصليها الشيخ “إبراهيم” بالتقصير، قبل أن أكبر قليلاً وأتجه للصلاة في جامع (عمورة)، بالتطويل بإمامة الشيخ “الضباع” رحمه الله.

بعد الانتهاء من صلاة التراويح، نبدأ اللعب حال خروجنا من الجامع، حتى وصولنا الشارع. ولأن الشوارع كانت مظلمة في غالبيتها، كانت لعبة الوابيس هي لعبتنا الأثيرة.

كنا نستمر في لعبنا حتى ساعة متأخرة من الليل. كان جارنا يفاجئنا بين الليلة والأخرى، بأن يفتح الصندوق الخلفي لسيارته (البيجو العائلية)، ويبدأ في توزيع (السفنز).

عندما يقترب العيد، تبدأ الجارات في تجهيز صفر الكعك المالح والحلو، والمقروض، والغريبة، ونسير نحملها فوق رؤوسنا، ونلبي الطلبات، مقابل ما سنحصل عليه من كعكات، وكنت أفضل المالح.

ليلة الـ27 من رمضان ليلة مميزة، ففيها توزع الحلويات في الجامع وترتفع الأيدي بالدعاء، أما ليلة العيد، فهي ليلة السهور، حتى صلاة العيد، وبعد المعادية، يعود كل منا إلى بيته، لينال حصة النوم التي تنقصه.

 

رأي واحد على ”أول رمضان

  1. سالم راشد يقول:

    أخي رامز
    ذكرتنا بأيام زمان الحلوه والله.
    تقريباً صمت في نفس الفترة، كانت ليالي رمضان جميله وكلها فرح.
    كانت الأحياء تحتفل وتجد الجميع يساعد بعضه.

    شكراً على هذه الرحلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.