السكن في حاوية

هل تقبل السكن بحاوية؟
أم، هل يمكنك السكن أو تقبل السكن في حاوية؟
وهنا لا نتحدث عن الاضطرار، بل القبول طواعية، وبملئ الإرادة والرغبة.

نعم، ثم من يسكن هذه الحاويات، طواعية بل ويطلبها ويرغب فيها، وفي بلاد تصنف إنها من العالم الأول، ونقصد أوروبا وأمريكا واستراليا -على سبيل المثال-.

القصة بدأت بالبحث عن حل للتخلص من تكدس هذه الحاويات، التي تغص بها مواقع العمل والموانئ ومخازن الشحن، ومحطات التفريغ. فحتى الحاجة إليها للتخزين والنقل لم تكن بالكافية للتقليل من عددها، ففراغ محطة ما، يعني امتلاء أخرى.

هذا البحث، صادف مشكلة تعانيها العواصم الكبرى، متمثلة في ارتفاع أسعار العقارات؛ سوقاً واستئجاراً، وبالرغم من وجود الكثير من الحلول، كالبيوت المتنقلة، والبيوت الصغيرة، التي يقوم أصحابها على إنشائها بتلاخيص من الإدارة المحلية للمدينة، لكن حجم الطلبات في ازدياد. ولأنها حكومات تعي دورها وما عليها من التزامات، كانت الدعوة للبحث في حلٍ لهذه المشكلة.

متابعة القراءة

20 متراً مربعاً أو أقل

 

بشغفٍ ونشوة، شاهدت خلال المدة الماضية ما يربوا عن الـ100 مقطع مصور على اليوتيوب، لمن يسكنون في بيوت صغيرة المساحة، وعندما نتكلم عن مساحة صغيرة أعني بيوتاً تقل مساحتها عن 20 متراً مربعاً، وفي العموم هي مساكن مساحتها أقل من 90 متراً مربعاً.

قد يستغرب البعض هذا الأمر، لكنه حقيقة واقعة.

شغفي بهذا الموضوع، يعود للعام 2003 تاريخ زيارتي الأولى لمدينة زيورخ (سويسرا)، عندما شاهدت في أحد المعارض (IKEA)، فراشاً علوياً أسفله ما يمكن استخدامه كمكتب أو الاستراحة والجلوس، وممارسة الحياة اليومية، وعلى أحد الجوانب تتمركز خزانة الملابس. بالسؤال عرفت أنه ثمة نظام عمارات سكنية تتكون من شقق صغيرة، أو محدودة المساحة، لأكثر من 60 ساكناً للعمارة التي تنتصب كبرج.

بعد فترة، شاهدت شريطاً مصوراً عن شاب حول حجرة ملحقة بأحد البنايات بأحد العواصم الأوربية، إلى بيت، بسبب غلاء إيجارات الشقق. الرائع في الأمر هو ملكة الإبداع في تحويل هذه الحجرة المربعة إلى بيت مكون من؛ صالة معيشة، غرفة نوم، مكتب للعمل، مطبخ وحمام. هذا الشاب استغل كل المساحات المتاحة بطريقة عبقرية ومبهرة، وباستثناء حائط المطبخ، والحمام الثابتين، فكل شيء قابل للتحول والتشكل ديناميكياً. بالمناسبة مساحة البيت 400 قدم-مربع، أي 37.16 متر-مربع.

وكوني من محبي وممارسي الأعمال اليدوية المنزلية، اشتركت في أحد القنوات على اليوتيوب للاستفادة من بعض الأفكار، وعند مراجعتي للقائمة الجانبية، وجدتني أضغط على رابطٍ لمقطع يعرض لشابة تسكن في بيت إبعاده (3.50 × 9.00 متر)، ليعود شغفي وأقضي أكثر من شهر مشاهداً لسلسلة من المقاطع حول ذات الموضوع، فاقت الـ100 حملت حوالي 20 مقطعاً منها.

ولقد خطرت لي فكرة، وهي سؤال الأصدقاء في العمل: هل يمكنك العيش في بيتٍ 20 متر مربع؟

ولا أريد التفصل في الإجابات، التي أكدت –في أغلبها- استحالة العيش، وأن الأجانب ليسوا مثلنا، وأنه: حيكون حوش (يضيق الخلوق)، وليس صحياً، وقائمة طويلة من الحجج، لكني لفت ظرهم إلى نقطة مهمة بسؤال:

  • – كلنا عملنا في الحقول النفطية، وكنا نقيم بحجرات مساحتها تساوي أو أقل من 20 متراً مربعاً، مزودة بدورة مياه؛ كيف كنتم تعيشون في هذه الحجرات؟

وكان الجواب الموحد، إنها كانت للنوم، وليست للإقامة، فعلقت: وهل تعتقدون أنهم يستخدمونها لأكثر من هذا!!!.

 

حقيقة، لا أخفي انبهاري بما شاهدت، أو رغبتي الحقيقية في العيش في أحد هذه البيوت، خاصة وإن بعضها يحوي قدراً عالياً من الابتكار، والذكاء. خاصة وإن الأمر تحول إلى ظاهرة، تم رصدها في أكثر من بلد، فلقد شاهدت مقاطع لبيوت في: فرنسا، إسبانيا، بريطانيا، أمريكا، اليابان، وغيرها. فالأمر وكأنه تحدٍ ومحاولة لتجاوز الحدود، وهو أمر لا يخص البيوت أو المنازل، إنما حتى المكاتب، ففي فرنسا على سبيل المثال حولت مجموعة من الشباب، غرفة المصعد الموجود على سطح أحد البنايات إلى مكتب لممارسة عملهم، إذ تم استغلال مساحة المكان بالكامل، وحتى كتلة الإسمنت التي كان من الصعب إزالتها، تم استخدامها في إعادة التصميم.

ومن خلال هذه المشاهدات، تكوت لدي مجموعة من الملاحظاتِ:

الشخصية؛ هذه البيوت في مجملها تعكس شخصية أصحابها. فهم من اختار البقاء في هذه المساحة واستغلالها، وترتيبها بالشكل الذي يتلاءم مع حاجاتهم، وطريقة استخدامهم اليومي. فهم من صمم قطع الأثاث والديكور، ورتب ركن المطبخ، وغيره من المستلزمات، أو قام باختيار ما يتوافق مع احتياجاته.

الاستغلال الأمثل؛ تمثل هذه البيوت مبدأ لاستغلال الأمثل للمساحات، والزوايا، والحوائط، وإدراك وفهم الأبعاد وتخيلها. حتى يمكن إعادة تهيئة البيت أو المساحة المراد شغلها. فمن ضمن الأفكار التي تستخدم، الأسرة القابلة للطي؛ فخلال اليوم يكون السرير مطوياً داخل الحائط أو خزانة خاصة، في شكل مكتبة، أو ما شابه، بحيث تكون المساحة الفارغة من البيت أو الغرفة، لممارسة الحياة اليومية والعمل، وعند الحاجة للنوم، يتم إخراج السرير والنوم.

كما يمكن تقسيم المساحة من خلال حوائط متحركة فيمكن بالتالي اقتسام المساحة بين شخصين، و في حال لو كانت المساحة ذات سقف مرتفع، استغلال هذا الارتفاع لتقسيمه لأكثر من مستوى.

الابتكار؛ تتميز هذا المساكن بقدر عالٍ من الابتكار، سواء على مستوى التصميم الداخلي (الديكور)، أو ابتكار أجهزة وأنظمة مساعدة. كأنظمة التحكم في الإضاءة، أو تحريك بعض الموجودات كالحوائط والفواصل، أو التحكم في أنظمة الطاقة.

فعلى سبيل المثال أحد المصممين (مهندس)، قام بابتكار طاولة، يمكنها الحركة عمودياً، ومحورياً (تغيير زاوية استوائها)، وضبطها بما يلائم استخدامها كطاولة رسم هندسي، أو عند الحاجة ضبطها كطاولة طعام، أو طاولة عمل (مكتب)، وهي تحتوي على أدراج مخفية ومصادر تزود كهربائية متعددة الاستخدامات.

اختلاف؛ الجميل في هذه البيوت، اختلافها عن المألوف، بحيث إن بعضها يمثل تحدياً أو لنقل، مغامرة. فأن يكون منزلك بعرض 1.5 متر، فهذا أمر مختلف ويخالف المألوف، أو أن يكون ارتفاع السقف أو المستوى الثاني، يعلوك بـ5 سنتيمترات. أو أن يكون منزلك يعتمد على الفرغات، أو الفراغات المهملة في المباني.

ابتكار موازي؛ وأقصد به، الابتكارات الخدمية، كالأثاث وأنظمة الإضاءة، وغيرها من مستلزمات الحياة اليومية، والتي قامت الشركات والورش بتصميمها تلبية لحاجات المستخدم لهذا النمط الحياتي.

فقطعة أثاث واحدة، يمكنها التحول والتشكل حسب الحاجة، كطاولات متعددة الاستخدام، أو الدواليب، أو الأسرة المطوية، وغيرها.

ابتكارٌ آخر على مستوى المصطلح، فمن مصطلح شقة، أو غرفة السكن (Apartment)، نتج Micro Apartment، ومن منزل (House) خرج (Tiny House). وذلك لتوصيف الحالة، وبالمناسبة بعد المدن والمقاطعات، بدأت بتنفيذ هذا النوع من المساكن الـ(Tiny) والـ(Micro) في شكل مشاريع، لحل أزمة السكن كما في اليابان وأمريكا.

مميزات؛ كل من يتم استضافته في هذه المقاطع، يُسأل عن ميزات السكن في مثل هكذا بيوت، الأكثير أجاب بأن هذه البيوت توفر لهم مكاناً للسكن، خاصة لمن يسكنون العواصم الكبيرة، وليس بمقدورهم الإيفاء بتكاليف الإيجارات العالية، كلندن ونيويورك وباريس. وهذا السكن يلبي حاجاتهم لممارسة حياتهم لما بعد العمل، في مكانٍ للراحة والاسترخاء، ومشاهدة التلفزيون أو العمل على حاسوب، للأعمال الخاصة.

البعض نبه إلى أن هذه البيوت تجعل الأشياء قريبة، وإنها ركنٌ خاص ومعزول يوفر الاستقلالية، والسكينة. وكما أشرت، فهذه البيوت تعكس شخصيات وأنماط سلوك أصحابها. فأحدهم كان هدفه من تحويل حافلة جده –وكانت مكتبة متنقلة-، إلى مكان للإقامة، توفير مساحة خاصة لدراسته العليا، من بعد رأى إنها تلبي حاجاته للسكن رغم وجودها بحديقة منزل الأسرة.

في الختام؛ في ظني إن هذا النوع من النمط المعيشي، لا يتوافق معايير ثقافتا المحلية وعاداتنا. فنحن كشعب، مازالت العلاقات الاجتماعية مفصلاً أساسياً في حياتنا، ولا يمكن للفرد الانفصال عن الجماعة سواء كانت أسرته، عائلته، أقربائه، أو أصدقائه ومعارفه. كما إن هذا النمط أنتجته حياة الكد والعمل اليومي لساعات طويلة، وهي نمط لا نعرفه في مجتمعنا الليبي.

الثمانينات

خلال المدة الماضية، عرضت قناة (ناشيونال جيوغرافيك-أبوظبي)، برنامجها (الثمانينات)، والذي يسجل وثائقياً لأهم أحداث عشرية الثمانينات، على جميع المستويات والاتجاهات. والحقيقة أني تابعت هذه السلسلة أكثر من مرة، كون القناة أعادتها أكثر من مرة ضمن خطتها البرامجية.

هذه السلسلة بقدر ما تسجل لعشرية، وتعرض لأهم محطاتها، فهي في ذات الوقت تحيلك من حيث لا تدري إلى مقارنة ما كان يجري ويحدث عالمياً وواقع ما كنت تعيشه، وتحديداً موقعك الجغرافي، والإقليمي، وبالتالي تتكشف أمامك الكثير من الأمور والحقائق.

وهذا ما حدث معي تماماً، خاصة وأنا أتابعة الإعادة الأولى للبرنامج خلال العام 2014، ووجدتني أعيدها مع أول إعادة بداية العام الحالي 2015.

إذ تكشف لي بوضوح وجلاء مقدار الجفاف الثقافي الذي عشناه، خلال فترة الثمانينات في ليبيا، كوطن، ومقدار العزلة التي كنا نعيشها كمجتمع عما يدور من حولنا عالمياً. ورغم حداثة سني خلال هذه الفترة، إلا أني كنت ألاحظ الفرق وأحسه، عندما أكون خارج الوطن، في (مصر) على سبيل المثال. ففي النصف الأول من الثمانينات تعرفت إلى مجلة (ماجد)، التي شدتني إليها بقوة، فلقد كانت مختلفة تماماً عما عرفته من مجلات كـ: الأمل، عرفان (تونس)، وسعد (الكويت)، ولم يكن ينافسها حقيقة إلا مجلة (سامر). كما أن لهذه المجلة الفضل في تعرفي إلى عمي “رجب الوحيشي” صاحب مكتبة (المعارف). ففي منتصف الثمانينات كنت أدرس المرحلة الإعدادية بمدرسة (أحمد رفيق المهدوي) الكائنة بمنطقة (الضهرة)، والقائمة على السور الجنوبي لمقبرة (سيدي بوكر)، وكنت وأصحابي نقوم يوم الأربعاء من كل أسبوع بالتوجه مباشرة عقب انتهاء الدراسة إلى مكتبة (الضهرة) حيث “عمي نصر” للحصول على عدد “ماجد” الأسبوعي، وفي الكثير كان من الصعب الحصول على العدد يوم الأربعاء، لذا نتوجه إلى كشك الجرائد الذي كان بميدان (القادسية)، وفي الغالب نقصد مكتبة (المعارف)، وإن لم نجد المجلة، والوعد بحجز نسخنا في حال وصول العدد متأخراً، وهو ما كان يتحقق بشكل دائم، نمر في طريق عودتنا على كشك المجلات والجرائد بـ(فشلوم) والذي كان منصوباً أمام (الجامع الكبير). عند زياتي لـ(مصر) في الثمانينات كنت أحصل على نسخي من المجلات بمجرد أن يطلب أبي من بائع الجرائد والمجلات الجوال إحضارها.

من الحقائق التي عرضت خلال الوثائقي (الثمانينات) وأدهشتني، أن العام 1982 شهد ولادة الأقراص الليزرية (Compact Disk). والتي عرفناها لاحقاً في التسعينات.

أجهزة الستيريو الشخصية (Walkman)، ظهرت في بداية الثمانينات، ولم أملك واحداً إلا في التسعينات. كذلك الحواسيب الشخصية (Personal Computer)، عرفت منافسة حادة، ولم يكن نصيبنا منها إلا (صخر).

ما زلت أذكر كيف كان الشباب الأكبر سناً، يتبادلون شرائط الكاسيت الأجنبية بطريقة قريبة من السرية، وكيف كانوا يسمعونها في مجموعات، وكيف ظهر رقص البريك دانس، وكيف استضاف شباب الشارع مجموعة من الشباب يأدون هذا النوع من الرقص.

كان العالم من حولنا يتغير، ويتطور ويتحول، ونحن نراوح في مكاننا، محاطين بدفاعات قوية ضد هجمات الإمبريالية، والرأسمالية، والعدو الصهويني، والغزو الثقافي الذي تقوده أمريكا بقيادة “ريغان”. كانت الأسواق المجمعة محط اهتمام الليبيين، ومركز استقطابهم، بعد أن اختفت الدكاكين، والـ(كوكوبرنج) البسكويت المفضل لدي. كانت الشكلاطة والمستكة والحلوى، هي هدايا من يعود من رحلة تأخذه لأحد البلاد العربية أو الأجنبية، وبمناسبة السفر كانت بعض الدول دون غيرها وجهة الليبيين خاصة الشباب، ونقصد: تشيكيا وهولندا، وكانوا يسافرون في مجموعات أو في صحبة من شخصين.

الثمانينات.. كنا في الجانب المظلم من العالم.

الشعب الذي أبهر العالم

ليبيات 44

نعم أبهرنا العالم، وعلى مر العصور كنا البلد والشعب الذي تخصص في إبهار العالم، من أول (من ليبيا يأتي كل شيء عجيب)، مروراً بارتدادنا لأكثر من 10 مرات، وصولاً ثورة 17 فبراير المجيدة. ولو تفكرنا قليلاً في أنفسنا، لأبهرنا أنفسنا، دون شك.

ولعل حالة الإبهار التي لازمتنا هذه، جعلتنا ننظر للأمور بشكل مختلف، ومغاير عن الآخرين، الأمر الذي يجعلنا نقف على مسافات مختلفة، ومواقع مغايرة عما يراه الأخرون، ويتفقون حوله. ولنا في التاريخ الكثير من الأمثلة، وليس أقرب للاعتبار من انتفاضة الشعب الليبي، في ثورة شعبية أطاحت بنظام القذافي، دافع فيها الشعب عن حقه وحلمه، وبذل من الدماء الزكية الكثير. وعلى غير المعتاد فشلت كل محاولات القذافي لضرب الليبيين من الداخل وإضعافهم، وتفريقهم، فهو كلما دفع باتجاه التفرقة، كان الشعب أكثر التحاماً، واتحاداً وتضحية، فالشعوب الأصيلة والعميقة ثقافياً، تنزع لا إرادياً للتكافل، والدفاع عن لُحمتها.

وانتصر الشعب، وأُعلن التحرير، وخرج الليبيون إلى الشوارع فرحين مهللين بالنصر، يشكرون الله، والشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل هذه اللحظة التاريخية، التي سوف لن ينساها التاريخ، وستظل في الذاكرة الليبية.
وفي الي الحظة التي ظن فيها العالم إن ليبيا تدخل عهداً جديداً من العدالة والحرية والبناء، بعد ما قدم من دعم ومساندة، فاجأناه بتحولاتنا غير المتوقعة، والتي أكدت إننا لم نكن نقف على ذات المسافة من هدفنا، ولم نكن على ذات الموقع. وما أستطيع قوله، إن الهدف كان من القوة بهيث شغلنا عن قراءة مواقعنا ومعاينة مسافاتنا، لم نراجع، لقد حجّمت الحماسة الكثير من المواقف والأخطاء، التي كانا سنستفيد منها كثيراً لو وقفنا عندها، وسارعنا بحلها، دون تجاوزها.

وما زلنا نبهر العالم.
لقد تحولنا من ليبيا الهدف إلى ليبيا الغنيمة، ليبيا المكسب وما نستطيع الحصول عليها منها.

كنا نقول: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
فانهزمنا أمام أنفسنا، ورفعنا الراية البيضاء سريعاً وعالياً، وتركناها تقودنا في الوحل وتخوض بنا بركه الآسنة.

كانت ليبيا واحدة، كيفما جئتها تلقاها (ليبيا).
لكننا حولناها إلى ليبيات، ووجهنا السلاح إلى صدورنا، وضغطنا الزناد.

كان هتاف (دم الشهداء.. ما يمشيش هباء)، يرتفع إلى عنان السماء، فيهزها.
صار الدمُ الليبي، أرخص من الرصاصة التي تُهرقه، وصارت (الشهيد) كالبضاعة الصينية، متوفرة ورخية، ولا تعمّرً طويلاً.

كان الانتخاب عرساً رقص فيه الجميع، وتفاخر بأصبعه الأزرق عالياً.
لنكتشف أن اللعبة أكبر منَّا، فجلسنا نتفرج.

في لحظة ما، ضاعت من ذاكرتنا، رأينا ليبيا مختلفة، أكثر بهجة وإشراقاً وبناءاً ونهضة.
وفي لحظة ما، لم تضع بعد، نحنُ على عتبة التمني، بالعودةِ للخلف.
*
الأملُ في الله أكبر
حفظ الله ليبيا

20 – 8

ليبيات 43

1

كنا نقوم بمراجعة جدول التشغيل عندما صاح أحد الزملاء:

– قصدكم اليوم 20-8 !!!

– نعم !!

لينخرط زميلنا في البكاء، ولم نجد من مفرٍ، إلا أن نشاركه حزنه.

2

في خضم الأحداث التي تمر بها طرابلس، نسينا يوم 20-8. اليوم الذي خرج فيه سكانه علنين تحريها، شارعاً شارعاً، وحياً حياً، ومنطقةً منطقة. في هبة سخر الله لها من المقادير أن أنزل السكينة في قلوب ساكنيها وهم يحلون صيامهم في الـ20 من رمضان، ويبتهلون لله بالدعاء أن ينصرهم، لينطلقوا تسبقهم أهازيج النساء، والتكبيرات (الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، ولازلن أذكر مشهد أحد الجارات، وهي ترفع علم الاستقلال من شرفتها، مهللة ومكبرة، والشباب عند ناصية الشارع لتأمينه.

ومن ألطاف المولى أن ألهم الله قائد كتيبة (امحمد المقريف) المكلفة بتأمين وحماية طرابلس، بإعطاء أوامره بتفريق الجنود، مما سهل الأمر على شباب طرابلس، إلا من بعض المحاولات التي باءت كلها بالفشل، عندما ظن بعضهم أنه بإمكانه إسكات صوت الحق.

3

كانت آخر ضربات الناتو في طرابلس بتاريخ 17-8-2014، عندما أنزل منشوراته قبلها بيومين عن نيته ضرب بعض المواقع، التي كان أحدها قريباً من بيت، وضرورة الابتعاد عن محيط المواقع حفاظاً على حياة المدنيين.

كان الحديث هادئاً بيني وبين أحد الأقرباء، عندما صمت قليلاً قبل أن يعلق:

– الصورة أمام عيني سوداء!!!

– …….

– معركة طرابلس، لن تكون سهلة.

– ربك في الوجود.

– كتيبة امحمد ليست سهلة، وستدافع حتى آخر رجل، والدم لن يترك أحد.

– ……… (محاولاً تشتيت الصورة التي بدأت بالتكون أمام عيني).

وعلقت:

– قل لن يصيبنا، إلا ما كتب الله لنا.

4

22 رمضان/ أغسطس*:

عند ساعات الصباح الأولى وصلت الدفعة الثانية من ثوار الجبل ودخلت (ميدان الشهداء) ملتحمة من ثوار طرابلس، وأهاليها، وها هو “عبدالعظيم محمد” مراسل الجزيرة، يبث أول مراسلاته من (ساحة الشهداء) بقلب العاصمة الليبية (طرابلس). لم تكن (ساحة الشهداء) الهدف، إنما الوصول لمعقل الطاغية في (باب العزيزية).

– شن الأخبار عندكم.

– لا إله إلا الله، المجرم يقصف فينا من باب العزيزية.

في (بن عاشور)، حيث منزل العائلة، كانت تصلنا أصوات معركة (باب العزيزية)، تتوقف لدقائق لتعاود الرشاشات زمجرتها، والمدافع دويها ودكها لأسواره. بعد صلاة العصر دوى انفجار قوي، كانت أحد قذائف الهاون سقطت قريباً من حينا.

– آه، شن الأخبار؟

– شنو، الضي قاعد ماجاش.

– الضي مش مشكلة، المهم تتحول هالغمة.

5

يمر أمام عيني الآن شريط طويل من الأحداث والذكريات، كيف عايشت هذه بداية الثورة في (مرسى البريقة)، ومعايشتنا للحظاتها الأولى وبنغازي تنتفض، ترقبنا لمعركة البريقة الأولى، وخروجنا لتحية الأبطال العائدين يحملون نصرهم لنا، مغامرة خروجنا من (مرسى البريقة) ورحلة عودتنا الطويلة إلى (طرابلس)، وكيف شملتنا رعاية المولى عز وجل منقذتنا مما تعرضنا له في بوابات التفتيش. محاولاتي البسيطة أنا وزوجتي للتوعية بأهمية هذه الثورة، وحقيقتها، ودحض ما يروجه إعلام القذافي، أو محاولاتنا الصغيرة للتبرع لدعم الثوار. الدعاء بظاهر الغيب لـ(مصراتة)، والثوار بالنصر المؤزر. اللحظات الأولى لتدخل الناتو في طرابلس، ليلة 20-8/ 20 رمضان. وصول الثوار من خارج طرابلس، فرحة التحرير يوم 23-8، خروجنا كل ليلة للشوارع للممارسة فرحنا علانية. أحلامنا وأمنياتنا، بأن ليبيا ستكون أكبر مما تستطيع أحلامنا. فرحة التصويت للمؤتمر، وكيف بدأ المشهد يتغير، وانسحاب اللون الوردي منه. حتى تاريخ اليوم 22-8-2014، أصوات القذائف تأتي من كل اتجاه، ولم يعد في طرابلس، من مكان بعيدٍ عن قذائف المتصارعين. توقف.

*

الأمل في الله أكبر

حفظ الله ليبيا.

________________________________

* من مقال بعنوان (فجر عروس البحر) نشر بصحيفة فبراير، وعلى الرابط (هـــــنـــــــا)